إغلاق صالة الكندي ضربة جديدة لذاكرة الفن السوري

قلب ينبض في جسد مدينةٍ تتعلّم كيف تتنفس رغم الركام
*المعركة على صالة سينما قد تبدو صغيرة، لكنّها في الحقيقة جزء من معركة أكبر: معركة على المعنى
*الكندي فضاء روحي وفكري، مرآة انعكست عليها تحولات المدينة وأحلام سكانها وآمال جيل نشأ على سحر الشاشة الكبيرة
عبد الكريم البليخ

يلقي الوضع السوري الراهن بثقله على كل مفاصل الحياة في البلاد، ولا يبدو المجال الثقافي في منأى عن ذلك، حيث تغلق دور سينما وصالات عرض بحجج واهية، ومنها صالة الكندي التي تواجه قراراً رسمياً بإغلاقها وتحويلها إلى مركز ثقافي. قرار ترفضه النخبة الفنية والغالبية السورية؛ فالكندي تعدت كونها صالة عرض، بل هي جزء من تراث سوريا وتاريخها.
في مدينةٍ كدمشق، لا يُقاس الحنين بالماضي وحده، بل بقدر ما بقي فيه من شواهد حية. مدينةٌ تُراكم الذكريات كما تُراكم الغبار فوق حجارة البيوت، تُخفي تحت عتباتها قصائد وأسئلة، وتنسج من تفاصيلها لغةً لا يفهمها إلا من عاش بين نوافذها المغلقة وشرفاتها التي تشهد على ما لم يُكتب. وفي قلب هذه المدينة، حيث تتقاطع الأرواح مع الذاكرة، ويمتزج الحاضر بندوب الماضي، تهتز واحدة من آخر معاقل النور: صالة سينما الكندي.
ليست الكندي مجرد صالة عرض، بل فضاء روحي وفكري، مرآة انعكست عليها تحولات المدينة، وأحلام سكانها، وآمال جيل نشأ على سحر الشاشة الكبيرة. ولأن في هذه المدينة، كل حجر يروي قصة، فإن الكندي لا تحكي فقط عن السينما، بل عن الهوية. ولهذا السبب تماماً، بدا القرار المفاجئ بإغلاقها وتحويلها إلى “مركز ثقافي”، أشبه بما يشبه نزع القلب من الجسد، واستبداله بمِضخةٍ كهربائية.
عندما أعلنت وزارة الأوقاف السورية مؤخراً عن فسخ عقد الإيجار لصالة الكندي ـ المؤجّرة منذ عقود طويلة مقابل 30 دولاراً سنوياً فقط ـ لم يكن وقع الخبر عادياً. صحيح أن الخبر نُشر بلغة إدارية محايدة، وبنبرة تطفح بـ”النوايا الطيبة” التي تعد بجعل المكان منارةً للعلم والمعرفة، لكنّ ذلك لم يُخفِ الصدمة التي تلقّاها الشارع الثقافي والسينمائي.
حجر يروي حكاية
المكان الذي يمتد على أكثر من 700 متر مربع في قلب دمشق، بالقرب من مقهى الهافانا، ومحطة الحجاز، وسوق الحلبوني، لم يكن يوماً مجرد عقار، بل ذاكرة متجسّدة. بناية تعود لستينيات القرن الماضي، وكانت أولى المنابر التي شهدت ولادة السينما السورية بصيغتها المؤسساتية، قبل أن تصبح وجهة للمثقفين والطلبة والعشاق، وواحةً للهاربين من صخب الواقع وضجيج السياسة.
عشرات المحتجين وقفوا أمام مبناها، رافعين لافتات لا تطالب فقط بعدم إغلاق المكان، بل تستصرخ من يملك القرار: لا تطفئوا آخر النوافذ. “الكندي ليست جدراناً”، “لا لطمس ذاكرة السينما”… كانت اللافتات تعبيراً مباشراً عن الغضب، لكنها أيضاً إعلان حداد على مدينةٍ تفقد ملامحها بصمت. وكأن الاحتجاج لم يكن ضد قرار بعينه، بل ضد مسار يتجه ببطء نحو المحو الكامل للذاكرة الثقافية.

محمد صالح وزير الثقافة السوري الى جانب جهاد عبدو المدير العام للسينما
من الجانب الرسمي، بدا أن وزارة الأوقاف تنظر للأمر من زاوية إدارية بحتة. فالعقار، بحسب روايتها، مُؤجَّر منذ عقود بمبلغ زهيد لا يتناسب مع موقعه الحيوي، ولا مع قيمته السوقية. وبالتالي، وبالتالي رأت أن من الأجدى تحويله إلى مركز ثقافي يكون أكثر فاعلية من “صالة سينما مغلقة في الغالب”، بحسب ما أشيع.
لكن في العمق، كانت المعضلة أعمق من ذلك بكثير. فالمعركة هنا ليست على إيجارٍ أو عقد قانوني، بل على الفكرة نفسها: هل يُمكن اختزال الحياة الثقافية في مراكز بيروقراطية؟ وهل يُمكن أن نمنح “النور” دون أن نفهم مصدره؟ بالنسبة لمن دافعوا عن بقاء الكندي، لم يكن مركز الثقافة بديلاً مقنعاً، بل محاولة لإلباس العتمة ثوب الضوء.
في خضم هذه الموجة من الاستياء، جاء بيان الفنان جهاد عبده، المدير العام للمؤسسة العامة للسينما، ليضيف إلى المشهد بعداً أكثر إنسانية. عبده، الذي تربّى ـ كما قال ـ “منذ نعومة أظافره على مقاعد الكندي”، عبّر عن “دهشته واستغرابه” من القرار الذي نُشر دون إشعار أو تنسيق مع وزارة الثقافة، ولا مع مؤسسة السينما نفسها.
لكن الأهم في بيانه لم يكن الصياغة الرسمية، بل النبرة الحنون التي حملها. تحدّث كفنان، لا كموظف. كطفل سابق لا يريد أن يُنتزع منه حجرٌ أحبّه. لم يُهاجم القرار، بل حاول فهمه. تحدّث عن لقاء جمعه بوزير الثقافة، وعن نوايا لدراسة القرار ومآلاته، وتعهّد بإيصال صوت السينمائيين والدفاع عن إرث الكندي.
وفي عبارة لافتة، لخص عبده رؤيته لمستقبل السينما السورية قائلاً: “مزيداً من دور السينما، مزيداً من الإنتاج كماً ونوعاً، لا العكس!”، وكأنه يُذكّر بأن السينما ليست ترفاً، بل ضرورة وجودية لشعبٍ أنهكته السنوات الطويلة من الألم والانغلاق.
الحديث عن الكندي لا ينفصل عن الحديث عن دمشق نفسها. فالصالة جزء من نسيج ثقافي حيّ، ممتد من مقهى الهافانا، الذي لطالما ضجّ بالصحافيين والمثقفين، إلى سوق الحلبوني، حيث تتراكم الكتب القديمة كأنها أصداء لعقول لم ترحل. قرب محطة الحجاز، حيث يصمت الزمن، كانت الكندي بمثابة غرفة في بيت الذاكرة.
في تلك الصالة، لم تُعرض فقط الأفلام، بل صُقلت أحلام. كانت اللقاء الأول لجيلٍ مع فكرة السينما كنافذة، كأداة للتأمل والمواجهة والانعتاق. كانت بوابة لحوارات لم يكن لها مكان في الإعلام الرسمي، ومنبراً لطرح أسئلة ممنوعة. لذلك، فإن فقدانها لا يعني فقط خسارة صالة، بل إغلاق نافذة أخرى في جدار المدينة المكتوم.
شاشة بلا مدينة
في الظاهر، يبدو قرار وزارة الأوقاف شأناً مالياً إدارياً، لكن في الجوهر، هو مشهدٌ من مسلسل طويل من تراجع الحياة العامة، وتضييق الحيّز الثقافي، وانحسار التنوع. حين تُغلق الصالات، وتُختصر الثقافة في مهرجانات مكررة أو مراكز مُكيّفة، فإننا لا نخسر الفن فقط، بل نخسر قدرتنا على أن نكون بشراً.
السينما كانت وما زالت فنّ التجاور: صورة وصوت، فرد وجماعة، حكاية وحلم. وفي بلدٍ كدمشق، المثقلة بالتاريخ والمعنى، لا يمكن فصل الفن عن الذاكرة، ولا الشاشة عن الروح. لذلك فإن تحويل صالة الكندي إلى “مركز ثقافي” لا يبدو تطويراً، بل اختزالاً موجعاً.

وقفات احتجاج
في بلد يحاول لملمة شظاياه، قد تبدو هذه المعركة على صالة سينما، صغيرة. لكنّها في الحقيقة، جزء من معركة أكبر: معركة على المعنى. على الحق في التذكر، في الحلم، في الجلوس بصمت أمام شاشة، ومشاهدة الحياة تُروى بطريقة أخرى. إنها معركة على ما يجعلنا بشراً: الخيال، والتأمل، والحرية.
فمن حق مدينة كسرت كل ما فيها أن تحافظ على ما تبقّى منها. من حق جيلٍ عاش في العتمة أن يحتفظ ببقعة ضوء. ومن حق ذاكرةٍ تُغتال يومياً أن تصرخ في وجه “النور الجديد” الذي يأتي بقرارات جافة.
صالة الكندي لا تستحق أن تُغلق. لا لأنها صالة سينما فقط، بل لأنها ذاكرة، لأنها سؤال، لأنها قلب ينبض في جسد مدينةٍ تتعلّم كيف تتنفس رغم الركام. فهل نطفئ هذا النور… باسم النور؟
