د. موسى رحوم عباس
على تُخوم الصحراء هنالك عند أطراف الربع الخالي يشتّمون رائحة المطر قبل أوانه ربما بأيام يُثبّتون أوتاد بيوت الشعر، ويشدّون أطنابها، يحفرون النوى بصبر؛ كي تسيل مياه المطر فيه، ويبتعدون من الأودية ومجرى السيل، ويقصدون أعالي الهضاب بعد أن يجمعوا إبلهم وأغنامهم قريباً من منازلهم، ويسهر الرعاة ليلتهم مع كلابهم حذرين، ونيرانهم لا تنطفئ ترى ما الذي أنعش لدي هذه الذاكرة الصحراوية! ذاكرة الجفاف والعطش الخذلان من كل الغيوم التي تمر مسرعة إلى كل الجهات، إلّا جهة خيامنا فيقتلنا الظمأ ويتجمّع الملح على شفاهنا المتشقّقة، فنذوي كشجرة ذابلة، تحتضن ظلها فتموت بهدوء، وتضمُّ أغصانها بكرامة!
هأنذا في غابات “أستوكهولم” أركض بملابسي القصيرة وحذائي الرياضي خلف هؤلاء النسوة بسيقانهن المشدودة، وصدورهن العامرة التي تؤدي رقصة الحياة، بينما تضع أيامي بحنين لا ينتهي للحياة، لا وجهة محدّدة لي أركض خلف الجموع التي تبتهج بالشمس وتستبشر بانقطاع المطر، إنَّهم فرحون بعودة الحرارة للأرض، واخضرار الأشجار، أرانب بريَّة تسترّق البصر من بين الأجمة، لا تخاف من البشر، تقطع الطريق بين أقدامهم بأمان تام تشاركهم طعامهم، حتى البلابل والغربان والنوارس تحط على الطاولات لتلتقط الخبز والجبن من يد الأطفال، لا تخاف من الحصى الذي يقذفه الأطفال في بلادنا، ولا رصاص في هذه الدروب، تتقافز على بطاقات صغيرة تشير إلى أن هذه الشجرة زرعت في ذكرى رودريغو روخاس دي نيجيري وهذه زرعت في ذكرى أليخاندرو سالجادو تروكويان، ضحايا الحرية في تشيلي، وقرأت التوقيع على يسار البطاقات المشروع الإنساني الدولي 2005م” لا أدري ما الذي أضحكني؟ ظننتُ أنَّ كلَّ أشجار الغابة الباقية زرعت لنا، أو في ذكرانا! ازداد اندفاعي بالركض، ثمّة طاقة مفاجئة شعرت بها، وكأن قمم الأشجار صارت تلوح لي، وكأنها تحتضنني بعد شوق غياب طويل!
في دروب قريتي المتربة، أركض نحو الشمس، أثير من الغبار ما يكاد يخفيني عن أعين المارة أجمع الحصى الصغيرة ، أضعها في جيوب ثوبي الكثيرة، وأشد المقلاع عن آخره، مُتَّخِذاً وضعية الرامي، أرمي ذلك العصفور الذي يختبئ مني بين الأعشاب التي نبتت على أطراف الساقية الكبيرة التي تجلب المياه المشروع الخواجة موريس من نهر الفرات، أغمض عيني اليسرى، وأفتح اليمني إلى آخر مدى أقطع تنفسي تماماً، المقلاع مشدود إلى آخره عندها أطلق نحوه فينتفض، يقفز محاولاً الطيران قفزة اثنتان ثلاثة، يسقط مضرجاً بدمائه، أركض نحوه أقلبه بين يديّ، صغيرٌ صغيرٌ جداً، لا يَصلح حتى للأكل، أتركه وقد لوى عنقه.
وفتح منقاره، كأنه أراد أن يقول لي شيئاً!
الناس في تلك المدن البعيدة يركضون يبحثون عن الظل عن بقعة آمنة، عن سماء لا تمطر رصاصاً، ولا تسيل فيها دماء يحملون أسلحة.
يصوبون نحو بعضهم كلهم خائفون من بعضهم. والنجاة تكون لمن يُطلق أولاً، القاتل كان يمكن أن يكون مقتولاً، لو أنه تأخر في الضغط على الزناد!.
شعرها الذهبي كأنه حزمة من السنابل، سنابل حقلنا في تخوم البادية البادية جافّة، وعندما نرفع البيدر كانت تخرج لنا الأفاعي والعقارب لم نكن نهرب نهاجمها بالمذراة والعصي على الأغلب كنا ننتصر عليها الحية أسهل من العقرب….. كانت تركض وذيل الحصان الذهبي الذي عقصته خلفاً. يتأرجح على كتفيها، كأنه البندول يميناً ويساراً، تعبت من الركض خلفها أصابني الدوار وأنا أتابع رحلة الذهب المتأرجح في رحلته التي لا تتوقف، لكنها توقفت فتحت زجاجة ملونة تحتوي ماء مع قطع ليمون، توقفت شربت قليلاً من الماء، قلبي يكاد يتوقف، كانت قدماي على الأرض، لكنني لم أكن أعلم أين أنا!
ـ هل أنت متعب؟
ـ هاااه
ـ هـل أستطيع أن أقدم لك شيئاً؟
لم تتلق إجابة مني، فتحت الزجاجة الملونة. وقدمتها لي غابت عني كل مفردات اللغة اندلق العرق من جبيني إلى عيني ووجهي، تناولت الزجاجة، شربت الماء الممزوج بالليمون، كانت العصافير تطير أسراباً فوقنا، والنوارس تدور في حلقات وسط حدائها الذي لا يتوقف، لم أجد حتى تلك الكلمة اليسيرة “شكراً لم تنتظر شكري استأنفت الركض نحو اللامكان، واستأنفت الركض خلفها، في دروس الجغرافيا كنت أمسك بالكرة الأرضية في مدرسة القرية. البحر باللون الأزرق، الصحراء باللون الأصفر الترابي، الجبال باللون البني. وكلما كان البني غامقاً، كان الارتفاع أكبر، حسناً، لكن إذا ركضنا من هذه النقطة، أضع أصبعي فوق نقطة بجوار نهر الفرات، ربما تكون قريتي أو قريباً منها، أعني إذا ركضنا عكس دوران الكرة الأرضية، توصلت لنظرية: إننا مهما ركضنا في مثل هذه الحالة، فستبقى في مكاننا أواصل الركض في غابات “أستوكهولم”، البحر إلى يميني والطريق المزدوج وخط المترو إلى يساري، ترجمت اسمه المخطوط في اللوحة الزرقاء:
دهشت من تلك التسمية: “طريق الحرية” وهل هم لديهم مثل هذه الأسماء؟ عندنا طريق الثورة، وجسر الحرية، وبوابة الاستقلال، وقلعة الصمود، لكنها كلها نقاط ثابتة عكس دوران الكرة الأرضية لهذا تركض تركض، تركض، لكننا ثابتون عند النقطة عينها. اكتشاف ربما أحصل منه على براءة اختراع، اختراع لا أستطيع البوح به حتى لأبنائي، مَنْ يُصْغِي الرجل مجنون؟ المسافة اتسعت بيني وبين ذيل الحصان الذهبي المتأرجح أمامي، المسافة تتسع، ومع كل حركة يلمع الذهب كأنه برق، ذاك الذي يسبق المطر على تخوم بادية الشام، برق يخطف الأبصار العصافير تطير كغيمة سوداء مثقلة بالمطر. والنوارس في حالة نشوة تمر فوق الرؤوس التي ترتفع وتنخفض بتواتر منتظم تحتفل بالشمس. وتكتسب الأجساد البضة سمرة انتظرتها شهوراً. تزداد المسافة بيننا أحاول ضبط سرعتي مع حركة مؤخرتها المشدودة. لكن المسافة تزداد، ثمّة من يشتت انتباهي، تحت تلك الشجرة العتيقة، تذكرني بزيتون فلسطين وأرز لبنان، شاب أسمر، شعره ينحدر إلى كتفيه يحتضن صديقته حتى الهواء لا يمكنه المرور بينهما وجذع الشجرة يستنشق عطرها لثماً ولمساً. المسافة تزداد أضبط إيقاعي مرة جديدة، لعلي أعوض خسارتي. على يميني مجموعة كبيرة من الرجال والنساء في حصة رقص في الهواء الطلق حركاتهم الموحدة وصوت الموسيقا التي تصدح من مكبرات الصوت، تفقدني تركيزي، تلك المرأة التي ابتعدت عن المجموعة لكنها تحاول أن توحّد حركات جسمها مع الإيقاع، ذلك الكهل الذي يقف بصعوبة، لكنه في حالة نشوة ظاهرة تزداد المسافة بيننا، رائحة المطر لا أخطئها رائحة التراب البكر تشمل كل كياني أركض أركض غابات أستوكهولم، حدود البادية الشامية، النباتات الذابلة يقتلها العطش الساكن في أوردتها طيور السنونو في حركتها الدائرية وصياحها في موسم التزاوج.
أفرغ جيوبي من الحصى، أرمي المقلاع في الحاوية الصفراء المخصصة للبلاستك، يطفر العرق نهراً من جبيني، تتباطأ تلك التي ترمح أمامي غزالاً شارداً، الذهب الذي عقصته خلفاً، تهدأ حركته البندولية، تفتح مرة ثانية زجاجة الماء بقطع الليمون، تقدمها لي قبل أن تبل ريقها، أشرب، أشرب كمن لم يشرب ماء مع قطع الليمون في حياته، تسألني بلكنة محبّبة:
أنا أعرف وجهتي: فأركض، فهل تعرف أنت؟
لا، ليس لي وجهة!
هل حاولت؟
نعم. أحاول الوصول إلى مركز الكون.
– أي كوي؟
– لا أعرف. سأخبرك عندما أعرف!
حسناً. دعنا نتابع.
انطلقنا في الركض من جديد، أحاول ألا تزدادُ المسافة بيننا، الذهب يعود إلى بريقه يميناً ويساراً في بندوله الذي لا يهدأ، رائحة المطر لا تفارقني، وأنا أبحث عن كون له مركز.
استوكهولم /6/ 2025