Site icon المزمار الجديد

“الروع” لزهران القاسمي: حين يتحول الخوف إلى نظام حياة

عماد الدين موسى

في روايته “الروع”، الصادرة حديثاً عن دار مسكيلياني في تونس (2025)، يقدّم الكاتب العُماني زهران القاسمي تجربة سرديّة تستند إلى فكرة بسيطة ومقلقة في آن: كيف يمكن للخوف أن يصبح شيئاً ملموساً، كائناً يُرى ويُسمع ويُطارد؟ هذا هو جوهر الرواية التي تنطلق من حادثة غامضة في قرية صغيرة، لكنها لا تلبث أن تتحوّل إلى تأمل طويل في أثر الرعب على النفس والمجتمع، وعلى اللغة ذاتها.

الرواية لا تكتفي بسرد قصة شخص يُدعى “محجان”، بل تمضي أبعد من ذلك لتفكك العلاقة المركّبة بين الفرد والخوف، بين الصوت والصمت، بين التجربة وارتداداتها. تبدأ الحكاية بصرخة غريبة يطلقها البطل في ليلة هادئة، فتكون هذه الصرخة الشرارة التي تفتح أبواب الرعب في القرية كلها. ومع مرور الوقت، يصبح الخوف أشبه بعدوى تنتشر، لا أحد يعرف كيف بدأت، لكن الجميع يتأثر بها.

أسلوب القاسمي في “الروع” هادئ لكنّه نافذ. يستخدم لغة بسيطة، خالية من التزويق، لكنها تحمل في داخلها توتراً خفيًاً. الجمل قصيرة، الإيقاع مضبوط بعناية، وكأن كل كلمة محسوبة لتؤدي دورًا دقيقًا في بناء التوتر. لا حاجة للصرخات العالية أو الانفعالات الكبرى، فالرعب هنا يهمس، يتسلل، ويُعيد تشكيل وعي الشخصيات ببطء.

ما يميّز الرواية هو هذا التوازن بين الحدث والجو. فبينما تقع أمور قليلة على صعيد الحبكة، تنمو داخل الشخصيات عواصف لا تُرى. “محجان” ليس مجرد شخص مضطرب، بل تجسيد لإنسان محاصر بشيء لا يفهمه، لكنه يشعر بثقله في كل لحظة. حتى أهل القرية الذين يراقبونه، لا يملكون تفسيرًا، لكنهم مع الوقت ينخرطون في لعبة الشك والعزلة والخوف الجماعي.

تقدّم “الروع” قراءة دقيقة للطريقة التي يُعاد فيها إنتاج الخوف داخل المجتمعات. ليس بوصفه انفعالاً شخصياً فقط، بل كقوة قادرة على التأثير في العلاقات، وتحديد من هو “الخارج عن الجماعة”. الخوف في الرواية لا يأتي من خطر حقيقي دائماً، بل من تصوّر الناس له، من التراكم البطيء للمجهول، ومن الرغبة الدفينة في إيجاد من نحمّله الذنب كي نرتاح.

الرواية أيضاً ذات بعد بصري قوي. القاسمي يعرف كيف يرسم مشهدًا بلقطة واحدة: نظرة، حركة جسد، تغير طفيف في نبرة الصوت. كل شيء يحمل معنى. حتى الفزاعة -فزاعة الحقل التي يطلق عليها العُمانيون الرَوْع – التي ترد في النص تتحوّل من مجرد رمز بسيط إلى تجسيد لما يطارد الناس من داخلهم لا من خارجهم.

في النهاية، “الروع” ليست فقط رواية عن الرعب، بل عن هشاشة الإنسان، عن كيف يمكن لحادث واحد أن يكشف هشاشة المجتمع، وعن كيف يصبح الخوف وسيلة للسيطرة، أو طريقة للبقاء، أو حتى وسيلة للفهم. رواية تُقرأ بهدوء، لكنها تترك أثراً طويلاً لا يزول بسهولة.

Exit mobile version