Site icon المزمار الجديد

خيانة في الظل

عبد الكريم البليخ

ثمّة مواقف في حياة البشر تستوقفنا، لا لأنها غريبة في تفاصيلها فحسب، بل لأنها تكشف عن هشاشة النفس البشرية حين تُساق خلف نزواتها المظلمة، بعيداً عن القيم والأعراف التي يُفترض أن تكون لها سياجاً واقياً. ولعلَّ أقسى ما يمكن للمرء أن يشهده هو ذاك التناقض الفادح بين صورة الإنسان الظاهرة، التي يُفاخر بها في المجالس، وبين خبايا نفسه الملتوية التي يتستر عليها بدهاء.

نقف اليوم أمام نموذج لرجل طالما تباهى بأصله ونسبه، وأغرق أسماع الناس بالحديث عن شرف عشيرته، ومكانة أهله، وأنه ابن لسلالة لا يرقى إليها أحد. يرفع رأسه مزهواً برجولة متوارثة، وبأخلاق يدّعيها ادعاء، ويُصوِّر نفسه وديعاً طيباً، صادق النوايا، نقيّ السريرة. لكنه في باطنه كان صورة أخرى: ذئباً يترصّد، غارقاً في أهواء مريضة، متقلباً في مشاعره، لا يعرفُ معنى للقيم التي يلوكها بلسانه صباح مساء.

لقد عاش زمناً في أوروبا، قبل أن يُساق السوريون إلى المنافي هرباً من نار الحرب والفقر والوجع. ثم عاد ليستقر في الغرب من جديد بعد أن تزوج من اسرة مهاجرة وكون لنفسه حياة جديدة. بدا في ظاهره وكأنه قطع أشواطاً في الاندماج والحياة المستقرة، لكن باطنه كان مأهولاً بالشهوات المحمومة والغيرة العمياء، وكأن نجاح الآخرين في محيطه كان يُشعل فيه حقداً دفيناً، فراح يفتش عن سبل إذلالهم، ولو بالاعتداء على أقدس ما يملكون: حرمة بناتهم وأعراض نسائهم.

منذ البداية، كانت تصرفاته تنبئ بما يخفيه من سوء. يظهر بينهم بوجه بشوش، ويجلس على موائدهم مكرّماً، فيفتحون له أبوابهم، ويغمرونه بالحب والود، غير مدركين أن الضيف الذي يظنونه ابن بيتهم ليس إلا ذئباً متنكراً بملامح إنسان. لم يكن أحد يتصور أن يمد يده إلى ما لا يجوز، أو أن يحاول استدراج القريبات إليه بأساليب خسيسة!.

بدأت القصة حين تواصل مع إحدى شقيقات زوجته بذريعة الشكوى من زوجته، متذرعاً بأنها لا تلبي حقه الشرعي. كان حديثه مثقلاً بالإيحاءات الرخيصة، فانكشفت نواياه سريعاً. لم يكن ذلك مجرد ضعف نزوة عابرة، بل خطة منهجية لاقتناص فرائس من أقرب الناس إليه. فما إن سُدّ الباب في وجهه حتى انتقل إلى شقيقة أخرى، ثم ثالثة، كمن يتنقل بين أهداف محددة، لا يردعه وازع من دين أو ضمير!.

الأدهى من ذلك أنه لم يتورع عن محاولة التحرش بالطفلة الصغيرة، ابنة العشر سنوات، حين كانت تزور بيت شقيقتها لمساعدتها في تربية أطفالها. أي انحدار أبشع من هذا؟ أي نفس مريضة تلك التي لا ترى في براءة طفلة سوى فريسة لنزواتها؟ إنها لحظة كاشفة، تفضح جوهره الذي لم يَعُد يحتمل التستّر.

لم يكتفِ بمحاولاته تلك، بل تجاوز حدّ الجرأة حين حاول التقرب إلى والدة زوجته بذريعة واهية. كانت محاولة مريبة، سرعان ما أدركتها بفطرتها الأمومة الحصيفة فأحبطت مسعاه!.

لقد كان يتخبط في نزواته، كمن يفتش في كل اتجاه عن منفذ لخيباته الداخلية، عاجزاً عن مواجهة نفسه أولاً، وعن مواجهة حقيقته كرجل فاشل ثانياً.

كان في سلوكه تناقض غريب؛ يزور أهل زوجته مكرّماً، يتناول طعامهم، ويجلس بينهم مطمئناً، وكأنه فرد من البيت، فيما كان في داخله يتربص بنسائهم، مستخفاً بكرمهم، متمادياً في خيانة الثقة التي أولوها إيّاه. يشبه الذئب الذي يندسّ بين القطيع متظاهراً بالوداعة، بينما أنيابه تلمع استعداداً للانقضاض.

لقد تعددت مواقفه المريبة: حين يصطحب زوجته إلى بيت أهلها، ما يلبث أن يختلق الأعذار ليتوارى؛ مرة بحجة موعد مع صديق، وأخرى لتقديم واجب عزاء، وثالثة بذريعة موعد مع صديق لجهة العمل. وفي كل مرة يترك زوجته وحيدة مع أطفالها، فيما هو ينشغل بترتيب خيوط مآربه الخفية. كان أهل الزوجة على سجيتهم، يظنون الأمر بريئاً، لكن الأيام كفيلة بفضح المستور.

وما إن بدأ التواصل الخبيث يتكرر حتى تكشفت الحقائق. شقيقات الزوجة أدركن أن وراء كلمات المجاملة أحاديث مسمومة، وأن وراء طلبات المساعدة نوايا قذرة. ولولا يقظتهن لكانت العواقب أشدّ فداحة. لقد أراد أن يصطاد ضحاياه واحدة تلو الأخرى، لكنه اصطدم بعقول نسائية قادرة على كشف ألاعيبه.

أي خيانة هذه التي يتلبسها رجل تجاه أقرب الناس إليه؟ أي انحطاط يجعل من زوجته وجسراً نحو شقيقاتها؟ إن ما فعله ليس مجرد خطأ أخلاقي، بل جريمة بحق الإنسانية، إذ يُفرغ الزواج من معناه، ويحوّله إلى أداة لتحقيق رغبات مشوّهة. إنه لم يخن زوجته فحسب، بل خان كل من فتح له الباب، كل من وضع ثقته فيه، كل من صدّق ادعاءاته بالطيبة والخلق!.

لعل ما يدفعنا للتأمّل هنا هو البعد النفسي والاجتماعي في هذه القصة. فالرجل الذي يعيش حالة عَجز داخلي، سواء كان جنسياً أو معنوياً، قد يحاول استعادة توازنه الزائف عبر إذلال الآخرين. هو لا يطيق مواجهة ضَعفه، فيسعى إلى تعويضه بالهيمنة على من يظنهم أضعف. إنه شكل من أشكال الانتقام من الذات عبر الآخرين، لكنه في النهاية لا يجلب له سوى المزيد من الانكسار والفضيحة.

المجتمع بدوره يُفاجأ بمثل هذه النماذج التي تمشي بين الناس متوشحة بالفضيلة، فيما حقيقتها تسبح في الرذيلة. وهنا يتجلى السؤال المؤلم: كيف يمكن لإنسان أن يتقمص كل هذا الزيف، ويعيش في انفصام يزداد اتساعاً بين ما يُظهره وما يُبطنه؟ الجواب يكمن في غياب الضمير، وفي انقطاع الصلة بين المرء وقيمه الداخلية. فالذي يهوى التظاهر بالكرم والشرف، وهو في الخفاء غارق في الخيانة، يعيش حياة مزدوجة، ينفق فيها طاقته كلها على إخفاء حقيقته، حتى تأتي لحظة ينكشف فيها أمام الجميع عارياً من كل الأقنعة.

إنها قصة ليست عن رجل بعينه فقط، بل عن نمط بشري يتكرر في صور مختلفة، في كل مجتمع وزمان. أشخاص يعيشون على حافة القيم، يرفعون رايات الشرف أمام الناس، لكنهم في الظل يتساقطون واحداً تلو الآخر أمام أبسط امتحان للنزاهة. ومثل هؤلاء لا يؤمَن جانبهم، ولا يُعتمد عليهم، لأنهم أسرى أهوائهم، ومتى سنحت لهم الفرصة انقضوا على أقرب الناس دون تردد.

قد يتساءل البعض: ما الذي يدفع إنساناً ليتحول إلى هذا المستوى من الانحطاط؟ أهو عجز نفسي، أم انحراف غريزي، أم تربية معطوبة لم تغرس فيه قيمة حقيقية؟ ربما هو مزيج من كل ذلك، لكن المؤكد أن انكشاف أمره لم يكن سوى نتيجة طبيعية لمسار طويل من التزييف. فما كان خفياً لا بد أن يظهر، وما كان يُحاك في العتمة لا بد أن ينفضح تحت ضوء النهار.

إن هذه القصة ليست للتشهير بشخص بعينه، بل لتكون جرس إنذار: أن الثقة العمياء قد تكون خطراً، وأن الفضائل المعلنة لا تُغني عن اختبارات المواقف. وهي أيضاً تذكرة بأن الإنسان مهما طال ادعاؤه لا بد أن يسقط القناع يوماً، ليُواجه نفسه أولاً، وليكون عبرة لغيره ثانياً.

24/9/2025

Exit mobile version