إناسة

الدوحة الثقافية… نبض يتجدّد

عبد الكريم البليخ

عودة مجلة “الدوحة” الثقافية أشبه بعودة الروح إلى جسد الثقافة العربية، بل كأنها استعادةٌ لذاكرة فكرية طويلة، حُفرت سطورها في قلوب القرّاء قبل أن تُنقش على الورق. ليست “الدوحة” مجرد مطبوعة تعود إلى الصدور، بل هي كينونة ثقافية تعيد تموضعها في الزمان والمكان، لتتحدث بلغات متعددة، فتلامس عمق الإنسان العربي وهمومه وتطلعاته، وتستدعي صوته الداخلي للحديث مع ذاته وتاريخه ومستقبله.

منذ أول عدد صدر في نوفمبر عام 1969، لم تكن المجلة مشروعاً إعلامياً عابراً، بل مشروعاً حضارياً متكاملاً. تأسست تحت شعارها البصير: “ملتقى الإبداع العربي والثقافة الإنسانية”، لتكون مرآةً نزيهةً لوجدان الأمة، ومنصةً لحوارٍ عابر للحدود الجغرافية والسياسية، بين المشرق والمغرب، بين الكلمة والموقف، بين الإنسان وظله.

لقد عبرت “الدوحة” أجيالاً من المفكرين، فكانت الحاضنة لنخبة من الكتاب والمبدعين العرب أمثال: رجاء النقاش، محمد جابر الأنصاري، فتحي رضوان، محمود السعدني، عصام شريح، عبد المحسن صالح، عباس خضر، عبد السلام العجيلي، أحمد العنيني، درويش مصطفى الفار،  الطيب صالح، محمد عابد الجابري، إدوارد سعيد، وكتابات جبرا إبراهيم جبرا، زكريا تامر، عبد الله الجفري، مرزوق بشير وغيرهم كثير. وكانت صفحاتها بمثابة فسيفساء فكرية تمزج بين عمق التحليل وجمال الأسلوب، ما جعلها تحتل مكانة مرموقة في المشهد الثقافي العربي. وعندما توقفت المجلة في أغسطس 1986، ثم عادت في 2007، ثم توقفت مجدداً، بدا الفراغ الذي خلّفته واضحاً في الساحة الثقافية، وكأن نافذة كبرى أُغلقت على الضوء.

لكن الضوء لا يغيب طويلاً. وها هي اليوم، في 2025، تعود المجلة إلى قارئها، متوشحة بثوب جديد يجمع بين عبق الورق وسرعة الرقمنة. عادت بقيادة الشاعر مبارك آل خليفة، بروح شبابية ووعي بصري معاصر، وتزامن عودتها مع فعاليات معرض الدوحة الدولي للكتاب، لم يكن محض صدفة، بل كان إعلاناً مزدوجاً عن نهضة ثقافية تؤمن بأن الكلمة، رغم تقلب الزمن، ما زالت تملك مفاتيح التغيير.

ففي هذا التوقيت الحاسم، حيث تتغير العلاقة بين الإنسان والمعرفة، ويغدو الحرف في منافسة مستمرة مع الصورة والشاشة، جاءت “الدوحة” لتُعيد ترتيب هذه العلاقة. فقد أطلقت المجلة نسختها الرقمية، لا لتلغي الورق، بل لتواكب روح العصر، وتستثمر الذكاء الاصطناعي والوسائط المتعددة لتقديم محتوى تفاعلي يليق بالقارئ الجديد. كما أكّد رئيس تحريرها أن النسخة الورقية ستبقى حاضرة تصدر دورياً كل ثلاثة أشهر، في إشارة إلى أن الأصالة لا تُلغى، بل تتجدّد.

التحول الرقمي هنا لا يُمثّل قطيعة، بل انفتاحاً. فالمجلة، كما صرّح مبارك آل خليفة، ستبقى منبراً للمبدعين العرب، منفتحة على الأفكار الجادة، ومستمدة هويتها من القيم الإسلامية والعربية. إنها مجلة تُدرك أن الثقافة ليست سلعة تستهلك، بل رسالة تُحمل.

ولأن الفكر لا يعيش إلا إذا كان مؤسسياً، فقد جاء القرار الوزاري رقم 44 لسنة 2023، والصادر في الجريدة الرسمية مطلع 2025، ليؤسّس رسمياً المجلة ضمن نظام مؤسسي يضمن استمراريتها وتطورها. وكان هذا القرار بمثابة إرساء لحجر الأساس الجديد، ووضع المجلة في سياقها الطبيعي كرافعة فكرية في مشروع ثقافي وطني واسع.

تاريخياً، كانت مجلة “الدوحة” نافذة قطر على العالم، تنقل من خلالها نبض المشرق إلى المغرب، وتبني من خلالها جسراً بين الثقافات. وكانت منصّة رصينة تواكب المعارض والمؤتمرات، وتغطي الفعاليات الثقافية والفنية التي تحتضنها البلاد على مدار العام. وفي غيابها، بدت الساحة القطرية في حاجة إلى صوت يعبر عن حراكها الفكري المتنامي. واليوم، تعود المجلة لتلبي هذا النقص، بل لتتجاوزه، فتكون مركز إشعاع لا محلياً فقط، بل عربياً ودولياً.

تأتي عودتها أيضاً في سياق استراتيجي أوسع لوزارة الثقافة القطرية، بقيادة سعادة الشيخ عبد الرحمن بن حمد آل ثاني، الذي أظهر حرصاً واضحاً على دعم المنصات الثقافية التي تُعبّر عن هوية قطر الفكرية، وتُسهم في بناء الوعي المجتمعي. ومجلة “الدوحة”، بهذا المعنى، ليست مجرد امتدادٍ لماضٍ عريق، بل استثمارٌ في المستقبل الثقافي للأمة.

على المستوى النفسي، فإن عودة المجلة تمثل عودةً للصوت الداخلي العربي، ذاك الذي لطالما وجد في الثقافة ملاذاً من الضجيج السياسي والتيه الاجتماعي. وهي أيضاً فرصة للقارئ العربي، ليعيد اكتشاف نفسه، لا عبر فوضى مواقع التواصل، بل عبر نصٍّ عميقٍ، وتأملٍ يخرج من رحم المعرفة.

أما على الصعيد المعماري الرمزي، فإن المجلة في نسختها الجديدة تُشبه بناءً ثقافياً شامخاً، أعمدته الموروث، وسقفه الطموح، وواجهته المعاصرة. صفحاتها تشبه قاعات فكرية متجددة، يجلس فيها القارئ العربي إلى طاولات متعددة: حوار فلسفي، مقال أدبي، تحقيق فكري، ملف ثقافي، لقاء مع مفكر، أو شاعر.

وبين طيات العدد الجديد، يجد القارئ روائح الحبر القديم تمتزج برائحة المستقبل، مقالات تطرح الأسئلة الصعبة دون أن تخاف الإجابة، ودراسات تبحث في قضايا الأمة دون مواربة، وحوارات تعيد تعريف المثقف لا كصوت نخبوي، بل كفاعل حقيقي في صيرورة المجتمع.

إن المجلة، في نسختها الجديدة، تُعيد الاعتبار لفكرة “القراءة” لا كمتعة فحسب، بل كفعل وجود. القراءة التي تصوغ الفرد، وتبني رؤيته، وتجعله شاهداً لا مجرد مستهلكٍ للمعرفة. وهنا تحديداً يكمن جوهر المجلة: أن تفتح باباً، لا لتدخل أنت منه، بل لتكتشف أنك كنت فيه منذ البداية، تبحث عن ذاتك.

فمرحباً بعودة “الدوحة”… لا كأرشيف حيّ، بل ككائن حيّ، ينبض على إيقاع الزمن العربي، ويكتب صفحاته بمداد الأمل والمعرفة، في زمنٍ تتقاذفه العواصف، وتُعاني فيه المجلات الورقية من الغياب. لكن “الدوحة” تثبت مرة أخرى، أن الفكر الحقيقي لا يموت، بل يعود، أقوى، أعمق، وأكثر إشراقاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى