ألكسندر أرنولد … حين يرحل الظل عن جداره

رحلة لاعبٍ يعيد تعريف ذاته على أرض لا تعرف المجاملة
عبد الكريم البليخ

ليس السؤال “هل ينجح ألكسندر أرنولد في ريال مدريد؟” مجرد تنبؤ رياضي أو تكهّن صحفي، بل هو في جوهره دعوة لقراءة حكاية لاعب بأدوات الحفر في العمق، في سيرة من تلك التي لا تُروى فقط عبر الأرقام، بل عبر اللحظات، والإيماءات، والتغيرات الصامتة في ملامح الملعب.
إنه تأمل في رجل بدأ حياته الكروية في مدينة ليفربول، تحت سقف “أنفيلد”، حيث الجدران تعرف أسماء أبنائها، والملعب لا يستضيف اللاعبين فقط، بل يحتضنهم كما تحتضن الأم وليدها. في هذه المدينة، تفتّح وعي أرنولد، لا فقط كلاعب، بل كعاشق للفريق، ابناً لترابه، واحداً من أولئك الذين لا يُعلَّمون الولاء، بل يولدون به.
لكن الموهبة، بطبيعتها، لا تعرف الثبات. هي تبحث عن امتحانات جديدة، عن حدود أبعد من الألفة. وهكذا، في تحول شبيه بخروج الطائر من عشه الأول، انتقل أرنولد إلى ريال مدريد. ليس بحثاً عن المال أو المجد، بل لأن الظلال، مهما امتدت على الجدران القديمة، لا تبقى للأبد. ولأن اللاعب، كي لا يُصبح أسير نسخته الأولى، لا بد له أن يغادر لحظة ذروته… ويخوض مغامرته الجديدة.

في ليلة من ليالي “أنفيلد” في 2019، وفي الدقيقة 78 من مباراة العودة ضد برشلونة، ارتسمت لحظة سينمائية على بساط العشب الأخضر. الكل كان في انتظار التنفيذ التقليدي لركلة ركنية، لكن أرنولد، بعين الطفل الذي ما زال يؤمن باللعب، وبذكاء الرجل الذي يقرأ ما لا يُكتب، لمح غفلة في دفاع العملاق الكتالوني. مرّر الكرة بسرعة، وسجّل أوريجي، وسُجّلت معه لحظة سحرٍ خالدة في تاريخ دوري الأبطال.
من تلك اللحظة، لم يعد أرنولد مجرد ظهير. كان مهندساً. لا تمريراته تُقاس بعدد، بل تُوزن بميزان الذهب. كان عقلًا على الجهة اليمنى، يربك الخصوم، وينقل الهجمة من الخاصرة إلى القلب بخفة ساحر لا يُمسك بخيوطه أحد.
ومع ذلك، لا شيء يدوم كما هو. فمع تطور ليفربول، تغيّر كل شيء. لم تعد أفكار كلوب كما كانت في البدايات؛ من “الضغط هو أفضل صانع ألعاب” إلى عقلانية استحواذ أكثر تحفظاً. دخل الفريق في مرحلة إعادة تشكيل، وصار قلب الملعب مركز الثقل الجديد، ومعه بدأت أدوار أرنولد تتقلّص، لا لقصور في عطائه، بل لتغيّر في هندسة اللعب.
ومع هذا التغيير، انكشفت بعض العيوب التي ظلّت مستترة خلف وهج الإبداع: ثغرات دفاعية، لحظات من التردد، ضعف في المواجهات الفردية. صار التقييم أكثر قسوة، لا لأنه تراجع، بل لأن المجد دائماً يطلب المزيد. وها هو، وقد أُعيد رسم خارطة الفريق، يجد نفسه لا في موقع القيادة، بل في أحد الخطوط الخلفية… إلى أن جاء القرار الكبير: الرحيل.
مدريد ليست ليفربول. الريال لا يحتفل فقط بما كنت عليه، بل يطلب برهاناً يومياً على ما أنت عليه الآن، وما ستكون عليه غداً. في مدريد، لا يُرحَّب بك باسمك، بل بإسهامك. لا تُمنح الوقت لتتكيف، بل تُحاسب من اللمسة الأولى. ولعل أرنولد يعرف ذلك جيداً، ويستعد له.

تشابي ألونسو ـ الذي يُحتمل أن يقود المشروع الجديد ـ ليس مدرباً تقليدياً. هو، كأرنولد، ابن وسط الملعب، قارئ جيّد لما خلف الإيقاع الظاهر. فلسفته لا تقوم على صرامة الخطة، بل على استجابة اللاعبين للحظة، على تحويل ما هو متاح إلى ما هو ممكن.
مع لاعبين كفينيسيوس ومبابي، يتغير شكل الفضاء الهجومي. سرعة، عمق، تهديد دائم. وهنا، تصبح تمريرات أرنولد القطرية أكثر من ضرورية. لكنها لن تُمنح بسهولة. فكل اندفاعة للأمام تترك خلفها فراغاً، وكل كرة ضائعة قد تكلّف كثيراً. لذلك، عليه أن يُوازن بين غريزة الهجوم، وضرورة الدفاع. وأن يجد صيغة تُمكّنه من البقاء لاعباً حرّاً داخل منظومة صارمة.
كأس العالم للأندية منحت لمحة أولى عن هذا الصراع: لحظات من التألق… يقابلها ارتباك. تمريرات ساحرة، وأخرى مرتجلة. بدا وكأن أرنولد ما زال يبحث عن موضع قدمه في مدينة لا تنتظر. لكنها لم تكن سوى بداية، فصل تمهيدي. والمسألة، في النهاية، ليست إن كان سيتألق، بل كيف سيختار أن يتطوّر.
لأن الحقيقة الجوهرية تظل: ألكسندر أرنولد ليس لاعباً عادياً. هو موهبة لم تأتِ كل يوم. يمتلك بصيرة مختلفة، ونظرة لا تُشبه نظراءه. لكنه الآن أمام تحدٍّ لا يتعلق فقط بإعادة إنتاج موهبته، بل بإعادة اختراع ذاته. أن يثبت أنه ليس ابن “أنفيلد” فقط، بل ابن اللعبة نفسها.
لم يعد أرنولد ذلك الشاب ابن الأكاديمية، الذي يركض حماسةً ليثبت نفسه. هو اليوم نجم عالمي، تُقاس خطواته، وتُقرأ كل تمريرة منه وكأنها وثيقة.
لكنه يعرف، كما عرف في الدقيقة 78، أن اللحظة لا تنتظر. أن المجد، أحياناً، يمر من زاوية الركنية… لا من منتصف الملعب. وأن الذكاء، أكثر من السرعة، هو ما يصنع الفارق. وربما لهذا، نؤمن أنه، وإن كان قد غادر جدران ليفربول، فإن ظله لن يتلاشى، بل سيتحوّل… إلى توقيع جديد، على حائط نادٍ لا يقبل إلا الخلود.
هكذا، حين يرحل الظل عن جداره… يكون قد قرر أن يصير شمساً.
