Site icon المزمار الجديد

إياد حسن: أتعامل مع السرد في العربية والألمانية بطرق مختلفة

الرواية وسيلة لفهم الذات واكتشاف العالم

* الأدب يحتاج إلى الانفتاح ليعبّر عن الواقع بطرق أكثر ثراءً

*حاولت أن أرسم بانوراما لوطن منتهك

*الهجرة ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر بل زلزال داخلي يعيد تشكيل هوية الفرد على مستويات متعددة

*لطالما كان الكاتب مؤمنا بأن التدوين والكتابة هما سلاحان في مواجهة النسيان خاصة في ظل الأزمات

*الكتابة مقاومة ضد اختفاء الأصوات التي لم يُتح لها أن تُسمع

*الرحيل لا يعني مغادرة أرض مألوفة بل تخلّ جزئي عن الذات

*أتناول انعكاسات السياسة على الأفراد وعلى التفاصيل الصغيرة التي تصنع حياة الناس

*الرواية ليست مجرد حكاية تُروى بل وسيلة لفهم الذات ولاكتشاف العالم من حولي

…………….

حوار ــ عبد الكريم البليخ

استطاع الروائي السوري إياد حسن عبر كتاباته أن يُشكّل صوتاً معبراً عن التجربة السورية في ظل الأزمة التي عصفت بالبلاد منذ عام 2011. ينتمي إلى جيل من الكتّاب الذين تأثروا بالتحولات السياسية والاجتماعية العميقة، وانعكس ذلك في أعماله التي تتناول قضايا الهوية، اللجوء، والبحث عن الذات.

برز اسم إياد حسن في المشهد الأدبي من خلال روايته الأولى “بخور الغريبة”، التي حملت بعداً إنسانياً عميقاً، ووثقت تجربة السوريين في مواجهة الحرب والهجرة والضياع. بأسلوب سردي متقن، وبلغة تنبض بالمشاعر والتأملات، استطاع حسن أن ينقل تفاصيل الحياة اليومية، ويجسد التناقضات التي عاشها المجتمع السوري بين الماضي والحاضر، وبين الانتماء والاقتلاع القسري.

إلى جانب اهتمامه بالسرد الروائي، يشارك إياد حسن في الأنشطة الثقافية والفكرية، ويحرص على تقديم رؤى نقدية حول الأدب واللغة والهوية في ظل التحولات العالمية. تعد كتاباته مرآةً للواقع السوري، حيث تمزج بين التوثيق الأدبي والأسلوب الفني الراقي، ما يجعل منه أحد الأسماء الصاعدة في مجال الرواية العربية الحديثة.

حكاية وطن منتهك

يتحدث حسن لـ “العرب” حول روايته البكر “بخور الغريبة” التي افتتحها بمقولة “حطم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع السلام والمحبة في كبد الأرض”. من مملكة أوغاريت التي تعود إلى خمسة آلاف عام قبل الميلاد، ما دلالة هذا الاستهلال؟ وكيف يرتبط بالصراع الذي تتناوله الرواية. يقول “هذه الكلمات، منسوبة إلى الإله بعل، الذي عده الكنعانيون إله الحرب والخصب معاً، تحمل بعداً رمزياً عميقاً يتجاوز الزمن. إنها ليست مجرد مقولة قديمة، بل وصية خالدة، شيفرة خلاص للمنطقة بأسرها، دعوة للسلام والإعمار في أرض أرهقتها الحروب والصراعات العبثية”.

رواية (بخور الغريبة)

ويضيف “هذا الاستهلال يضع القارئ أمام مفارقة موجعة “كيف يتكرر التاريخ بأبشع صوره، وكيف تظل هذه الأرض التي آمنت يوماً برسالة الحياة، ساحةً للدمار والتشريد؟. ترتبط هذه الفكرة جوهرياً بالصراع الذي تتناوله الرواية، إذ تدور أحداثها في بقعة جغرافية كان سكانها، منذ آلاف السنين، يؤمنون بهذه الوصية، لكنهم اليوم يعيشون النقيض تماماً. الاقتباس مجرد إشارة تاريخية، بل صرخة تتردد عبر الزمن، محاولة لتذكير الإنسان بأن السلام، وليس الحرب، هو السبيل الوحيد للبقاء”.

 نسأله كيف اختار أن تكون الراوية الأساسية امرأة، وهي بهجة العمر. كيف ساهم هذا الاختيار في تقديم رؤية مختلفة للأحداث؟ وهل كان الهدف إبراز معاناة المرأة السورية خلال الأزمة. ليجيبنا “اخترت أن تكون بهجة العمر الراوية الأساسية لأن صوت المرأة يحمل في طياته قدرة فريدة على البوح والإفصاح عن معاناة لا يُدرك عمقها سوى من عاشها. في الأزمات، تكون المرأة غالباً الحلقة الأضعف، لكنها في الوقت ذاته الأكثر قدرة على الاستمرار، على حمل الألم بصمت أو التعبير عنه بصدق. لم يكن هدفي فقط إبراز معاناة المرأة السورية خلال الأزمة، بل تقديم رؤية أوسع تعكس تحولات الذات في ظل التهجير والتشظي، وتجسّد كيف تعيد المرأة، بوصفها شاهدة وضحية وناجية، صياغة هويتها وسط الخراب”.

الرواية تمزج بين ثنائيات متضادة مثل الوطن، المنفى، الانتماء، الغربة، الماضي والمستقبل. نسأل حسن كيف حاول أن يعكس هذه التناقضات في نسيج السرد؟. ليقول “بعد انفجار الأزمة السورية وانفتاح أبواب كل التناقضات الدفينة على مصراعيها، أصبح مصير الناس العاديين مجهولاً. حاولت أن أرسم بانوراما لوطن منتهك، كشفت الأزمة باكراً عن نسيجه المجتمعي المتهتك، ما أدى إلى نكوصه نحو أنظمة ما قبل الدولة والعودة إلى الجماعة والالتحام بها ملاذًا أمام التحدي الوجودي، فإذا بالمجتمع السوري جماعات ومللاً تتنافر وتتحارب، وإذا بالسوريين ينفرون فرادى وجماعات في تغريبة مترعة بالمصائر المؤلمة”.

تتناول الرواية تجربة اللجوء بشكل يتجاوز الجانب المادي للهجرة إلى الجانب النفسي والروحي. كيف ترى علاقة الهجرة بإعادة تشكيل الهوية والذات؟. يتابع “الهجرة ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هي زلزال داخلي يعيد تشكيل هوية الفرد على مستويات متعددة. فالرحيل لا يعني فقط مغادرة أرض مألوفة، بل ينطوي أيضاً على تخلٍ جزئي عن الذات كما كانت بكل ما تحمله من عادات ولغة وعلاقات وذاكرة جماعية مترسخة”.

ويضيف “في هذا السياق، يتجاوز اللجوء بُعده المادي ليصبح رحلة معقدة من إعادة تعريف الذات. يجد اللاجئ نفسه معلقاً بين هويتين: واحدة تمتد جذورها في الماضي لكنها تتلاشى تدريجياً، وأخرى لم تتبلور بعد في محيط جديد يحمل ثقافة مختلفة. هذا التوتر بين الانتماء والفقدان قد يقود إلى أزمة وجودية، لكنه قد يكون أيضاً فرصة لإعادة بناء الذات، حيث يصبح اللاجئ كاتباً جديداً لحكايته، يعيد صياغة ماضيه ورؤيته لمستقبله في محاولة لاستعادة توازنه بين ما كان وما سيكون”.

استخدم الكاتب السوري في الرواية تقنيات مثل التداخل الزمني والتنقل بين الماضي والحاضر، كيف ساعدتك هذه الأساليب السردية في بناء تطور الشخصيات والأحداث. يشرح “اعتمدت في الرواية على تقنيات السرد الحديثة، مثل التداخل الزمني والتنقل بين الماضي والحاضر، لأنها أتاحت لي بناء الشخصيات والأحداث بطريقة أكثر عمقاً وحيوية. لم أقدم السرد بخط زمني مستقيم، بل جعلته متشظياً في بعض المواضع، حيث يتداخل الزمن داخل الصفحة الواحدة، ما خلق حالة من “اللا اندماج الزمني” التي تعكس تشظي الواقع نفسه”.

تعكس شخصيات الرواية (عمران، سعدو، وبهجة العمر) التوجهات المختلفة في المجتمع السوري. تسأل “العرب” كيف حاول من خلال هذه الشخصيات تقديم صورة عن الصراع الدائر في سوريا؟. ليقول “تشكل شخصيات بهجة العمر وعمران وسعدو الأعمدة الرئيسية للرواية، وتعكس من خلال صراعاتها الداخلية والخارجية التوجهات المختلفة في المجتمع السوري. كل شخصية منها تحمل إرثاً فكرياً وعقائدياً تراكم على مدار عقود، ليولد انقسامات حادة مشحونة بالتعصب والرفض للآخر المختلف. في المقابل، جاءت بهجة العمر لتجسد صوت الضمير والعقل، الشخصية التي ترفض الانجرار وراء العصبيات القاتلة”.

ويتابع “على الرغم من كونها امرأة عاشت تحت وطأة الظلم الاجتماعي والأعراف التقليدية، بقيت متمسكة بحريتها واستقلاليتها، رافضة أن تكون مجرد انعكاس للصراعات من حولها. لم تحمل الحقد لعمران، زوجها الذي طلقها وأعادها إلى قريتها بعدما أصبح وجودها بين عائلته موضع شك ورفض، لمجرد أنها تنتمي إلى الجماعة “الأخرى” التي يتهمونها بالعداء. كما أنها لم تستسلم لمشاعر الكراهية تجاه آل العز، عائلة زوجها، رغم المضايقات التي تعرضت لها منذ أن جاء بها عمران إلى حي طرفي في اللاذقية. من خلال هذه الشخصيات، حاولت تقديم صورة عن الصراع السوري ليس فقط بوصفه نزاعاً سياسياً أو عسكرياً، بل كحالة اجتماعية ونفسية متجذرة، حيث تتداخل العقيدة بالانتماء، والخوف بالتاريخ، لكن يبقى هناك دوماً من يسعى للفهم والتجاوز، كما فعلت بهجة، التي وقفت على مسافة من كل هذا الخراب، محاولةً أن تكون صوت العقل في زمن فقد فيه الجميع رشدهم”.

بهجة العمر، بطلة الرواية، تواجه العديد من التحولات خلال رحلتها، حيث تتقمص أدواراً مختلفة وتتخلى عن أنوثتها أحياناً من أجل البقاء. يعلق حسن في بناء شخصية بهجت العمر، سعيت الى تجسيد التحولات الجسدية والنفسية ترى العلاقة بين التحولات الجسدية والنفسية التي تفرضها الحرب على الإنسان، خاصة عندما يكون البقاء مرهوناً بالتكيف والتخلي عن أجزاء من الهوية الذاتية. لم تكن بهجة مجرد شاهدة على الأحداث، بل كانت في قلبها، تتشكل وتتغير وفقاً لإرهاصات الواقع ومراراته”.

ويضيف “حرصت على أن تعكس شخصيتها التناقضات النفسية التي تمر بها، حيث وجدت نفسها في حالة من الانسحاق الذاتي، تتأرجح بين الخضوع للقهر والرغبة في الصمود. خلال رحلتها، اضطرت إلى تقمص أدوار مختلفة، وأحيانًا إلى التخلي عن أنوثتها في سبيل البقاء، ما جعلها تواجه صراعاً داخلياً لم يكن مجرد صراع مع الخارج، بل أيضاً مع ذاتها التي لم تعد تعرفها كما كانت. ومع ذلك، كل هذه التحولات لم تكن عبثية، بل قادتها في النهاية إلى إعادة تشكيل ذاتها، إلى الوصول إلى لحظة من الترميم النفسي والجسدي، حيث تمكنت من استعادة هويتها بطريقة جديدة، أكثر قوة ووعياً. كما عبرت بهجة عن هذه الولادة الجديدة بقولها: “أنا هنا بُعثت من جديد، من حق أقدامي أن تطأ كل بقاع المعمورة، يابسةً كانت أم ماء. أنا ابنة الصحاري والغابات والجبال، أنا سليلة قبيلة النساء منذ خُلقَت حواء”. بهذه الكلمات، لم تكن تعلن فقط عن تجاوزها للصراع، بل عن تصالحها مع ذاتها الجديدة، التي وُلدت من رماد المعاناة أقوى وأشد عزيمة.

البخور رمز البقاء

البخور في عنوان الرواية يحمل رمزية خاصة، فهو مرتبط بالهوية والروحانية، لكنه مرتبط أيضاً بالغربة والضياع. تسأله “العرب” كيف استخدمت هذه الرمزية لتصوير حالة بهجة العمر؟. فيجيبنا “يحمل البخور في عنوان الرواية رمزية عميقة تتجاوز دلالاته التقليدية، فهو ليس مجرد عنصر مرتبط بالروحانية والهوية، بل أيضاً بالغربة والضياع. أردت أن أجعل البخور حاضراً في الرواية، ليس فقط من خلال العنوان، بل عبر السرد والصور البلاغية والرؤية العميقة، ليشكل عنصراً حسّياً يترك بصمته في وجدان القارئ، بحيث تتشابك رائحته مع المشاعر التي تثيرها الأحداث”.

تمثل شخصية والد بهجة العمر، الذي يدوّن تاريخ العائلة، ارتباطاً بالمكان والجذور. يقول حسن “في شخصية والد بهجة العمر، حاولت تجسيد الذاكرة الشعبية كجزء من التراث اللامادي الذي يشكل هوية الأفراد والمجتمعات. لطالما كنت مؤمناً بأن التدوين والكتابة هما سلاحان في مواجهة النسيان، خاصة في ظل الأزمات التي تهدد بطمس معالم الوجود الإنساني. عبر هذا الأب الذي يسجل تاريخ العائلة، أردت الإشارة إلى أهمية الحفاظ على العادات والتقاليد والأمثال المتداولة، التي تعدّ إرثاً إنسانياً نفقده تدريجياً وسط النزاعات والصراعات. كم من قرى محيت من الوجود؟ وكم من ذواكر سكانها طُويت معها إلى عالم النسيان؟ في ظل الدمار، لا يُهدَّم المكان فقط، بل يُمحى معه تاريخ الأشخاص، قصصهم، وأحلامهم التي لم تُكتب. الكتابة، بالنسبة لي، ليست مجرد فعل توثيقي، بل مقاومة ضد التلاشي، ضد اختفاء الأصوات التي لم يُتح لها أن تُسمع. في الرواية، كما في الواقع، يصبح التدوين محاولة لاستعادة الزمن الذي ينفلت من بين أيدينا”.

لدى إياد حسن تجارب في كتابة القصة القصيرة والرواية، كما أن لك أعمالاً باللغة الألمانية. تسأله “العرب” كيف يختلف تعاطيه مع لكل لغة عالمها الخاص، بكل ما تحمله من مفاهيم وتصورات وأدوات تعبيرية؟. فيوضح “أتعامل مع السرد في العربية والألمانية بطرق مختلفة، وفقاً لطبيعة كل لغة وحقلها الثقافي. عندما أكتب بالعربية، أشعر أنني أتحرك بحرية داخل فضاء لغوي مألوف، قادر على تطويعه بما يخدم رؤيتي السردية، بينما في الألمانية، حيث اللغة المكتسبة حديثاً، يكون الأمر أكثر تحدياً، لكنّه يفتح لي في الوقت ذاته آفاقاً جديدة في التفكير والتعبير”.

ويتابع “حين كتبت مجموعتي القصصية بالألمانية، وجدت أن القصة القصيرة كانت الوسيط الأنسب، ليس فقط لأنها تمنحني مساحة مكثفة للتجريب اللغوي، ولكن لأنها تتيح لي التعامل مع اللغة بطريقة أكثر تحكماً، بعيدًا عن تعقيدات السرد الطويل. أما في الرواية، فالأمر يختلف، فهي تحتاج إلى نفس سردي طويل وإلى إحكام في البناء والأسلوب، وهو ما يجعلني أكثر ميلًا للكتابة الروائية بالعربية، حيث أمتلك الأدوات بشكل أعمق. بالنسبة إلى “بخور الغريبة”، فإن ترجمتها إلى لغات أخرى، بما فيها الألمانية، ليست مجرد نقل للكلمات، بل هي إعادة خلق للنص ضمن سياق ثقافي مختلف، مع الحفاظ على روح الرواية وأصالتها. الترجمة قادمة، ليس فقط إلى الألمانية، بل أيضاً إلى الفرنسية والفارسية، لأنني أؤمن أن هذه الحكاية يجب أن تصل إلى أكبر عدد ممكن من القرّاء، خاصة في المجتمعات التي تعايشت مع قضايا اللجوء والانتماء”.

Exit mobile version