الإعلام رسالة أم تجارة؟

محمد الرميحي
تحيط بالإنسان العربي من المحيط إلى الخليج مجموعة ضخمة من وسائل الإعلام، سواء أكانت تقليدية (صحافة وتلفزة وإذاعة)، أم حديثة كوسائل التواصل الاجتماعي أو البودكاست الشخصيّ، وغيرها من وسائل التواصل.
لذلك يتعرض هذا الإنسان إلى كمّ هائل من المعلومات، قد يكون بعضها دقيقاً وصادقاً، وقد يكون كثير منها مزيّفاً، أو أنه نُشر لأغراض محدّدة تجارية أو سياسية.
مع ذلك نجد أن هناك بشكل عام نقصاً في مهنية الإعلامي نفسه، ولا أعمم. ولكن الظاهرة أن هناك الكثير ممّا ينبغي أن يقوم به الإعلامي، وبخاصة أنه يصبح في وسائل الإعلام التقليدية نجماً ينظر إليه الجميع على أنه يحمل رسالة، ثم يكون ضحيّة هذه النجومية!
النجم الإعلامي في وسائل الإعلام التقليدية هو – في الواقع – رهينة لمالك الوسيلة، سواء أكانت صحيفة أم محطة تلفزيونية أم محطة إذاعية، وسواء أكان المالك شخصاً أم شركة أم دولة. لذلك عندما يسحب مالك الوسيلة ما يتّكئ عليه الإعلامي، يصبح ذلك الإعلامي شخصاً غير ذي أهمّية، أو لا أحد يتذكّره؛ وفي الذهن كثير من الشخصيات التي لمعت في وقت ما، ثمّ عندما سحب منها تأييد مالك الوسيلة أصبحت غير ذات شأن.
نقص المهنية والتدريب الإعلامي بشكل عام في منطقتنا ملاحَظ، فلا يحتاج الإعلامي إلى شهادة ما، فتجده آتياً من خلفية وتدريب غير مرتبطين بالإعلام، لكنه يدخل إلى المهنة إما بالصدفة، وإمّا بسبب عدم وجود فرص أخرى للتوظيف، وإما حبّاً بالشهرة! هنا يقع متلقّي الرسالة الإعلامية في بحر من اللايقين، لأن مقدّم الرسالة غير مهنيّ.
فالإعلامي الذي ينقصه الاحتراف، ولا يحمل رسالة، سوف يضيع في بحر هائج من تقاطع وسائل الإعلام التقليديّة أو الحديثة، وضخامة المعلومات المغلوطة التي تتدفّق.
تكتسب ثقافة الإعلامي بعداً مهماً في تدريبه ومهنيته. ويلاحظ أن النقص الكبير في ثقافة الإعلاميين أو كثير منهم، سواء أكانوا رجالاً أم نساءً، يبدأ من خلال لفظه للمفاهيم والأماكن، وينتهي بتدخلاته غير المرغوبة في المناقشات العامة التي يعرضها للجمهور.
كان الإعلام في السابق له مرجعية، أما اليوم فإن المنصّات الشخصية تتكالب على المثير وغير الموضوعي من أجل جلب أكبر عدد من المشاهدين؛ وبالتالي تتسع شبكة التضليل الإعلامي في الشؤون الدينية والاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، فتخلق رأياً عاماً غير مستنير .
إعلام المنصة هو الأكثر تضليلاً لأنه لا يتوافق مع قواعد مهنة الإعلام أو مع بعض القواعد الأخلاقية العامة، فنجد أشخاصاً بعينهم محطّ تكالب من المنصات الخاصة، لأنهم يقولون الشيء المخالف فقط لأنه مخالف، وليس لأنه إضافة موضوعية إلى فهم القارئ أو المستمع، فتقدّم شخصيات تحمل أفكاراً تافهة وزبداً كثيراً، على أنها “تصنع الرأي العام”.
لذلك، فإن التدريب الإعلامي في فضائنا العربي يحتاج إلى إعادة زيارة. وهنا أستذكر الكتاب الذي من المفروض أن يقرأه كل إعلامي جادّ. وهذا الكتاب بعنوان Smart Brevity، وهو كتاب يشكّل دليلاً يشرح كيفية توصيل الأفكار بوضوح، وإمكانية أن يُقال الكثير بعدد أقلّ من الكلمات.
يشدّد المؤلفون الثلاثة: فانديهي وآلن وشوارتز، على أن الإعلامي الحديث لا يمكن أن يشار إليه بهذا المعنى، من دون أن يكون قارئاً عميقاً في موضوعات ثقافية شتى، كما أنه لا يمكن أن يكون إعلامياً عندما يتجاهل شروط التخاطب الحديث، أو شروط الكتابة الحديثة، في الوقت الذي يتوجّب عليه أن يكون على اطّلاع واسع بظروف الجمهور، الذي يتحدّث عنه ومعه، من حيث المستوى الثقافي والعلمي.
من الدراسات المتوافرة أن الجمهور العربيّ بشكل عام يقرأ أقلّ من أيّ جمهور آخر نسبياً، كما أن ضغوط الحياة تجعل من هذا الإنسان يميل إلى أخذ المعلومة السريعة من وسائل الإعلام، كما أنه لا يطيق الكثير من الحديث الطويل؛ فالإعلامي يخاطب عقلاً سريعاً ومرهقاً ومشتتاً في الوقت نفسه.
كاتب الصحافة أو مقدّم البرنامج عليه أن يختار المعلومات الأهم التي يقدّمها ويوظفها بكلمات وجمل قصيرة، تدعو إلى الإبلاغ والإقناع والتحفيز، وأن يخاطب الناس بشكل إنساني، من دون أن يكون فوقياً أو متعالياً، وأن يدعم ما يقول بأمثال حقيقية ملموسة قريبة إلى واقع المتلقّي؛ والإعلام المرئي شروطه “لسان فصيح، وصوت واضح، وثقافة عميقة” وليس صورة فقط!
لذلك نرى في فضائنا الإعلامي أنَّ الجمل القصيرة في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة هي الأكثر مقروئية من أيّ مقال طويل، بخاصة في الصحافة الرقمية، التي انتشرت في السنوات القليلة الأخيرة. هذه الجمل القصيرة تزيد من نسبة انتباه القارئ، ولكن على مقدم هذه الخدمة أن يبني ثقة القارئ في ما ينقل. دون هذه الثقة فإن القارئ لا يلقي إلا ما يُقال، لأنّ القول إما مدفوع لمصلحة تجارية ما أو لمصلحة سياسة ما، مما يجعله فجّاً وقريباً إلى عدم التصديق.
الوصول إلى القارئ ليس مجرّد أسلوب كتابة، بل هو أسلوب تفكير وتواصل، ونجد كثيراً من مقدّمي البرامج إمّا يتلون نصّاً من دون روح، أو نجدهم مصاحبين لمتلازمة قوليّة تنفّر المتلقّي من المتابعة، أو إسقاط ما هو غير مريح على الأحداث لتفسيرها خارج المنطق.
أما الإعلام المباشر الدعائي فإنه يأتي بنتيجة معاكسة، فكلّما كثر المديح لشخص أو سياسة، من دون مبرر، أخذ الجمهور موقفاً سلبياً من ذلك المديح. ويعتقد بعض الإعلاميين، ولا أقول كثيراً منهم، أن المديح هو الطريقة الصحيحة للانتشار، وهو فهم خاطئ، كما أن آخرين يعتقدون بأن النقد غير الموضوعيّ طريق إلى الانتشار، وهو من جديد فهم خاطئ. رسالة الإعلامي الملتزم بقضايا مجتمعه هي أن يقدم المعلومة ويفسّر الحدث بطريقة مقنعة له ولجمهوره.
يقضي كثيرون اليومَ ساعاتٍ طويلةً إما مع تليفوناتهم النقّالة يقرؤون ما تأتي به الأخبار، أو أمام شبكات التلفاز. وقد أصبح هناك تقسيم واضح في التخصصات التي يمكن أن يتابعها المشاهد، وتخضع تلك لقناعات المشاهد نفسه وميوله وتحيّزاته، فهو يدمن على ما يرغب أن يسمع، ويعزف عمّا لا يرغب في سماعه؛ ذلك خاضع لقدرته على القبول أو النفور من الرأي الآخر، وكثيرون ذوو بعد واحد!
كذلك، بعض الإعلاميين يستضيفون خبرات مختلفة في مجالات متعدّدة، ولكنك تجد الإعلامي نفسه يتدخّل في موضوع الخبير، فيتحدّث لوقت أطول من وقت الخبير. ومن اللافت الجملة التقليدية التي تقول “لدينا دقيقة واحدة” ثمّ يتحدث المقدّم عن الموضوع في أكثر من دقيقة، ذلك دليل على ضعف في المهنية والتدريب.
لم يعد الإعلام وظيفة وحسب، كما أنه ليس تجارة، إنما هو رسالة مهنية تخدم المجتمع، فإن لم تتوافر فيه تلك المهنية يضمحل ويتلاشى.