مذكرات صحافي متشائم

عبد الكريم البليخ

في زوايا غرف التحرير المتداعية، بين جدران اصفرّت تحت وطأة الدخان والغبار والأمل المنسي، يكتب الزمن سيرته المكرورة بلغة خرساء. هناك، في قلب المدينة المتعبة، تنبض الصحافة كقلبٍ مثقوب، يكاد يخبو، إذ تتسرب منه روح المهنة، شريفة الأصل، إلى مستنقعات الابتذال. في هذه الأرض المجروحة، عايشتُ زمناً تصدّعت فيه المعايير، وتهاوت فيه الكلمات من علياء قدسيتها إلى حضيض المساومات الرخيصة.
لم يَعُد القلم رمز الدفاع عن الحق، ولا صدى لمعاناة الناس. صار، في بعض الزوايا المظلمة، عصا يتكئ عليها الأميّون، ليتسللوا إلى حصون صاحبة الجلالة، ويتسللوا خلسة إلى ضمائر الناس. تتدحرج على ألسنتهم لغة مكسّرة، وترتدي أقلامهم أثواب التطفل الباهتة. هم الذين لا يملكون من الحروف إلا أسماءها، ولا من الصحافة إلا شهوة الهيمنة والابتزاز.
حين أنظر إلى هذه الوجوه المتسربلة بادّعاء المعرفة، المتخمة بغرور جاهل، أتساءل: كيف أمكن لهؤلاء أن يخترقوا حصون المهنة المقدسة؟ كيف انكسر السور الحامي للصدق والموضوعية؟
إنهم أولئك المتطفلون الذين لا يفرقون بين فواصل الجمل وعقد المبادئ، يهاجمون بلا سلاح سوى الوقاحة، ويتسلقون الجدران الرخوة لمؤسسات الدولة، يسائلون، ويهددون، ويبتزون، وكأنهم حراس العدالة، بينما هم لصوص العصر الجديد.
في الأحياء القديمة للمدن، حيث الأرصفة مشققة كحناجر العطشى، تتسرب الشائعات كما يتسرب الغبار من شقوق النوافذ المهترئة.
هنا، في هذا المشهد المتهالك، يمكن أن ترى بوضوح جريمة العصر: أميّون يتوشحون عباءة الصحافة، يخترقون الحشود ببطاقات تعريف رخيصة الطباعة، يلوّحون بها كجواز مرور لكل مؤسسة وكل مكتب مسؤول. يبتسمون ابتسامة صفراء، مشحونة بالتهديد المقنع، وبجملة غامضة مشحونة بالابتزاز: “كل شيء يمكن أن يُنشر… أو لا يُنشر”.
كم من مدير دائرة رسمية، مرعوباً على كرسيه، اضطر إلى إكرامهم بما خفّ وزنه وغلا ثمنه؟ وكم من معاملة حكومية بائسة عُلِّقت أو مررت بفعل نفوذ هذا الصحفي أو ذاك، الذي لا يَعرفُ من مهنته إلا التهديد والوعيد؟
هكذا صار الدهن يسقي له، كما يقول المثل، وصارت الأيادي تلطّخ بالفساد أوراقاً كان ينبغي أن تكتب بحبر الشرف.
الصحافة… هذا الفن الراقي الذي كان ذات زمنٍ مدرسةً في النزاهة وصوتاً للعدل، تحوّل، بفعل هؤلاء الطارئين، إلى بازار رخيص تُباع فيه الضمائر وتُشترى التصاريح.
هل تصدّق أن بعضهم لا يحسن كتابة فقرة واحدة خالية من الأخطاء؟ أن بعضهم ينقل النصوص نقلاً أعمى، يسطو على أفكار غيره، ثم يذيّلها باسمه، وكأن السطو على الكلمات يساوي القدرة على إنتاجها؟
ما أشدّ مرارة أن ترى هؤلاء يحصدون المغانم، بينما الموهوبون الحقيقيون، أولئك الذين يعصرون أفكارهم عصراً لينسجوا نصاً حياً من أوجاع الناس وأحلامهم، يقبعون في الظلّ، منسيين، مكسوري الخاطر.
ليس الأمر جديداً. كل مدينة، عبر تاريخها، أنجبت مدّعين ومتسلقين. في أسواق دمشق القديمة مثلاً، كان الدجالون يختلطون بأصحاب العلم الحقيقي، وفي ساحات بغداد كانت الخرافة تزاحم الحكمة، وفي مقاهي بيروت كان الجهل يتخفى خلف قناع الأناقة. لكن اليوم، الظاهرة أخذت طابعاً جماعياً، كما لو أن موجة أمية اجتاحت الصحافة، لا بمعناها الحرفي فحسب، بل أمية الضمير، وأمية الإحساس بالمسؤولية تجاه الكلمة.
من النادر الآن أن تجد صحفياً يكتب بروحه، يلاحق تفاصيل المادة الصحفية كما يلاحق صياد محترف أثر فريسته.
الصحفي الحقيقي يعرف أن النص ليس مجرد خبر يسرق الأنظار، بل نبض حي يتقاطع فيه السياسي بالاجتماعي، ويتشابك فيه النفسي بالثقافي.
لكنه اليوم مشهدٌ آخر: أسماء تُنشر مقالاتها في الصحف الورقية والإلكترونية، وهي لم تكتب حرفاً واحداً. رؤساء أقسام يتسلّقون المناصب، يدفعون بغيرهم إلى الخطوط الأمامية، ليجنوا هم وحدهم الثمار.
أما الحروف الحقيقية، تلك التي كان يجب أن تصرخ في وجه الباطل، فمقصوصة الجناحين، ملقاة في هامش النسيان.
وفي خضم هذا الخراب، يقف المواطن حائراً.
حين يقرأ مادة مائعة خالية من الطرح الرصين، يسأل نفسه: أين ذهب الصحفيون الحقيقيون؟
حين يذهب إلى دائرة حكومية، ويجد موظفاً مرتعشاً يلبّي مطالب “صحفي” لا يجيد حتى كتابة اسمه، يتساءل: أهذه هي السلطة الرابعة التي وعدونا بها؟
الصحافة ليست فقط مهنة، بل معمار روحي، بناء شامخ أقيمت أعمدته على قاعدة من النزاهة والشجاعة.
هي مثل مسجدٍ عتيق، يفترض أن يظل نظيفاً، عامراً بالحق، نابضاً بالحياة. وحين يتسلل إليها هؤلاء، فالأمر أشبه بمن يدنّس المحراب، ويطفئ السرج، ويرفع فوق المئذنة راية الذل.
حتى العمارة الصحفية تغيّرت. لم تعد مكاتب التحرير تنبض بالضجيج الإبداعي، لم تعد الجدران تحتفي بصور الأبطال الذين صاغوا التاريخ بلحظات قلم.
صار المكان أقرب إلى قاعة محكمة سرية، يتحاكم فيها الشرفاء، ويُكرّم فيها السارقون. قد يبدو كلامي سوداوياً، وربما يصفني البعض بالمتشائم.
لكن التشاؤم هنا ليس حالة عابرة، بل موقف أخلاقي. أن ترى الخراب ولا تصرخ، أن ترى الجريمة ولا تشهد عليها، خيانةٌ مضاعفة.
ومع ذلك، ورغم ظلمة المشهد، ما زلت أؤمن أن الصحافة قادرة على أن تعيد بناء نفسها، كما تعيد المدن المدمرة تشييد أسوارها القديمة.
ستعود الحروف لتشتعل بالنور، وستعود قاعات التحرير لتستقبل أصوات الحالمين.
أما هؤلاء الدخلاء، فمصيرهم أن يذوبوا كما يذوب الضباب أمام شمس الحقيقة.
إنها مجرد مسألة وقت. لأن الكلمة الطيّبة تبقى، وتزهر، حتى في أقسى الفصول. ولأن شرف القلم لا يموت.
27/4/202