يوميات

الدوحة تحتفي باستقلال مالي العريق

*د. ميرڤت إبراهيم

في مساء قطري دافئ، يزدان فيه المكان بألق الثقافة ورهافة الروح، شهد النادي الدبلوماسي في الدوحة احتفالاً مميزاً بالذكرى الخامسة والستين لاستقلال جمهورية مالي. مناسبة لم تكن مجرد فعالية بروتوكولية، بل لحظة محمّلة بالرموز والدلالات، إذ جمعت بين عبق التاريخ، ودفء الحاضر، وأحلام المستقبل. كانت الأمسية زاخرة بلمسة إنسانية صادقة، عبّرت عن عمق العلاقات بين قطر ومالي، وعن صداقة تتجاوز حدود السياسة لتلامس جوهر القيم الإنسانية المشتركة.

جاءت الدعوة من سعادة السفيرة Dédeou Ousmane Sidibé، سفيرة جمهورية مالي لدى دولة قطر، التي أضفت بحضورها إشراقاً خاصاً على الأمسية، فبدا الاحتفال أقرب إلى لقاء قلوب قبل أن يكون اجتماع دبلوماسيين. لم يكن الحضور عادياً؛ فقد شارك فيه نخبة من الوزراء والسفراء وكبار المسؤولين، يتقدمهم سعادة السيد محمد بن علي بن محمد المناعي وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وسعادة الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية، وسعادة الدكتور إبراهيم يوسف فخرو مدير إدارة المراسم بوزارة الخارجية، وسعادة السيد علي إبراهيم أحمد عميد السلك الدبلوماسي وسفير دولة إريتريا، إلى جانب عدد من الشخصيات التي مثّلت التنوّع الثقافي والسياسي.

وقد استُهلت الأمسية بكلمة مؤثرة ألقتها السفيرة Sidibé، حملت في طياتها اعتزازاً بذكرى الاستقلال واعترافاً بالتحديات التي واجهت مالي عبر مسيرتها الطويلة نحو البناء والتنمية. تحدثت بصدق يلامس القلب عن عمق العلاقات بين قطر ومالي، مشيرة إلى التعاون المتنامي في مجالات التعليم والثقافة والأمن والتنمية الاقتصادية. تلك الكلمات لم تكن مجرد إشادة بالواقع، بل كانت وعداً بمستقبل مشترك أكثر رسوخاً.

استعرضت السفيرة مسيرة التعاون منذ افتتاح سفارة مالي في الدوحة عام 2016، مبرزة مبادرات إنسانية مثل برنامج “علّم طفلاً”، والاتفاقيات الموقعة في مجالات الأمن والثقافة، إضافة إلى الزيارات الرسمية رفيعة المستوى التي عزّزت أواصر الصداقة. بدا واضحاً من حديثها أن العلاقات بين البلدين ليست علاقات مصالح فحسب، بل هي روابط إنسانية تستند إلى الاحترام المتبادل والإيمان العميق بقيمة الشراكة.

ثم انتقلت إلى الحديث عن جهود مالي في إعادة البناء تحت قيادة الرئيس الانتقالي الجنرال أسيمي غويتا، حيث أشارت إلى اعتماد دستور جديد وإطلاق ميثاق للسلام والمصالحة الوطنية، وهي خطوات تعكس إرادة شعب يسعى للنهوض من جراح الماضي. كما نوّهت بالدعم الذي تقدمه قطر في هذه المسيرة، مؤكدة أن الصداقة الحقيقية تظهر في أوقات التحديات قبل أوقات الرخاء.

ولم تغفل السفيرة الإشارة إلى البُعد الاقتصادي، إذ أعلنت عن استضافة مالي لمنتدى الاستثمار الإفريقي لمنظمة التعاون الإسلامي في العاصمة باماكو بين 2 و4 ديسمبر 2025، داعية المستثمرين من قطر والعالم إلى المشاركة. كان الإعلان بمثابة رسالة أمل بأن التنمية ليست حلماً بعيداً، بل مشروعاً ممكناً حين تتكامل الجهود.

لكن ما منح الأمسية روحها الخاصة لم يكن الخطابات وحدها، بل الأجواء التي سادت: تبادل الأحاديث، عبارات التهاني، والابتسامات التي ارتسمت على وجوه الحاضرين. كان الفرح صادقاً، والدفء الإنساني واضحاً، وكأن الاحتفال لم يكن بذكرى استقلال مالي فحسب، بل باستقلال الإرادة الإنسانية حين تختار طريق التعاون بدلاً من الصراع.

لقد جسّد هذا اللقاء صورة مثالية للدبلوماسية التي تتجاوز القاعات الرسمية لتصير جسراً للتواصل بين الشعوب. فحين تحتفي قطر ومالي معاً بذكرى الاستقلال، فإنهما تحتفيان أيضاً بقيمة الحرية كقيمة إنسانية عليا، وبحق الشعوب في أن تكتب تاريخها بأقلامها لا بأقلام غيرها.

وفي الختام، كان لزاماً أن تعلو مشاعر الامتنان، إذ تقدّمتُ بالشكر إلى سعادة السفيرة Sidibé على دعوتها الكريمة وحفاوة ضيافتها، وإلى الضيوف الذين منحوا الاحتفال ألقاً إضافياً بحضورهم. حملت الأمسية في طياتها رسالة واضحة: أن الصداقة الحقيقية بين الدول تُبنى على أسس إنسانية متينة، وأن الاحتفال بالاستقلال لا يعني النظر إلى الماضي فحسب، بل يعني أيضاً التطلع إلى مستقبل تتضافر فيه الجهود من أجل التقدم والازدهار.

إنها لحظة تؤكد أن الاستقلال ليس تاريخاً يُحتفى به كل عام وحسب، بل هو مسار مستمر يتجدّد بالعمل المشترك والإيمان العميق بقيمة الإنسان. ولعل أجمل ما في هذه المناسبة أنها أعادت إلينا الإحساس بأن العالم، مهما كبر، يظل قادراً أن يتسع للصداقة الصادقة ولحلم العدالة والحرية.

*سفيرة  قطر للسلام والإنسانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى