باليت المزمار

الرداء البنفسجي

ستار كاووش

الألوان هي السر الحقيقي الذي يكمن خلف جمال الطبيعة، حيث تتداخل هذه الألوان هنا وتنفتح هناك وتتدرج تناغماتها بطرق ليس لها نهاية. ومن يحب الطبيعة عليه أن يفتح عينيه جيداً ليرى السحر الذي يفوق الخيال، ولا يتوقف فقط عند اللون الأخضر رغم جماله وهو يفرض سيطرته الكاملة على العين، بل يجب الاقتراب أكثر من روح الطبيعة وتأملها عن كثب، وبذلك تظهر الفتنة الحقيقية للألوان المختلفة وتناغماتها وتدرجاتها التي لا تحدها حدود.

ترى من أين للطبيعة كل هذا التجدد والسحر والبهجة التي تبسطها على الأرض مثل رداء ملكي فاخر؟ كيف يمكن أن تتغير الألوان حسب الفصول وتتناوب تناغماتها بكل هذا الصفاء؟ علامَ تمنحنا الطبيعة كل هذا السخاء وتعطينا السعادة وتجدد لنا هواء الحياة؟ الطبيعة هي الأم، الرفعة، الجمال، الإلهام، الفن، الابداع، إنها قصائد مكتوبة بألوان الزهور، وهي قبلة عشق تمنحها الحياة لنا، بل هي قبلة الحياة ذاتها حيث تُجدد لنا الأوكسجين. الطبيعة هي الكرم اللامحدود، وهي ينبوع الجمال الذي سحر الفنانين على مرِّ العصور. هي الخصوبة والتكاثر، هي الانفتاح نحو المطلق ثم العودة الى الجذور.

ومن عطايا الطبيعة، حيث مازلنا وسط الصيف، تجلب لنا ضيفاً جديداً يشع في هولندا وغاباتها وحقولها المفتوحة نحو الأفق. أنه نبات الخلنج الذي بدأ ينتشر الآن مثل سجادة بنفسجية في ربوع البلاد المنخفضة التي تشبه حديقة مترامية الأطراف. وقد قضيت اليوم ساعات الظهيرة فى أحدى الغابات التي تكتسي الكثير من مساحتها بهذه النباتات الساحرة، حيث تحول كل شيء الى هذا اللون الفاتن الذي تشبعتْ روحي به، حتى شعرتُ بأني أتنفس هذا البنفسجي المذهل.

يصل ارتفاع هذه النباتات الى خمسين سنتيمتراً، وهي تظهر في مناطق قليلة من العالم، وموطنها الأصلي هي المناطق الساحلية في أوروبا الغربية وبريطانيا وايرلندا، وهي تتكاثر الآن عادة في الوديان والهضاب المحاذية للغابات ذات المناخ البحري والرطوبة العالية، حيث تُحيطها أيضاً بعض النباتات الصفراء والبنية ودرجاتهما المختلفة التي لتمنح المكان شيئاً من القدم وكأننا نعود مع هذه البقعة من الأرض الى أيام سحيقة مضتْ كما يحدث في هولندا التي توجد فيها خمس مناطق مختلفة تكتسي بهذا اللون مرتين في السنة، لذا يطلق عليها (الخلنج الصيفي)، والذي يكون بنفسجياً قريباً من لون الزهر، فيما الآخر هو (الخلنج الشتوي) الذي يقترب من النوع الأول بلونه الشائع، لكن يمكن أن يكون أيضاً ذو لون أبيض. وهكذا تتحول هذه الأماكن إلى مزار لكل محبي الطبيعة وتغيراتها وتجددها الباهر، حيث يقضي الناس أوقاتهم في هذه الفسحة التي ينتظرونها عاماً كاملاً، فيما تنتشر المقاهي الصغيرة على أطراف الغابات لتكون محطات استراحة لمن أكمل جولته في ربوع المكان.

كانت نباتات الخلنج موجودة منذ عصور قديمة في أعماق الغابات، لكنها ظهرت بشكلها المعروف الآن، بداية العصور الوسطى بعد أن أزيلت بعض الأجزاء من الغابات، فأدى ذلك لانكشاف هذه المساحات ذات اللون الجميل، والتي كان الفلاحون يستخدمونها كعلف للحيوانات أو جعلها وسائد للحظائر حيث تنام قطعان الأبقار والأغنام ليلاً. ومع مرور السنوات انحسرت أجزاء كبيرة منها بسبب التغيرات التي طرأت على البيئة بشكل عام. وهذا بدوره أدى تغير الحياة البرية هنا، حيث انحسر عدد الفراشات في هذه المناطق، كذلك قلَّتْ أعداد النحل الذي ينتج عسلاً يسمى عسل الخلنج. لكن رغم الكثير من التغيرات، فمازالت هذه المناطق تشع بجمال خاص وجاذبية تسحر كل محبي الطبيعة.

أكملتُ جولتي وسط الخلنج، ثم غادرتُ المكان ملتفتاً نحو اللون البنفسجي المائل الى الوردي، وتوقفتُ بعيداً وأنا ألقي نظرتي الأخيرة على أعشاب الخلنج النائمة، وعدتُ الى مرسمي وأنا أفكر بكيفية إدخال هذا اللون في لوحات جديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى