الزهرة التي لا تذبل

ستار كاووش
سألني صديق بعد أن شاهدني مستغرقاً في تصفح كتاب يحتوي على لوحات من عصر النهضة: (لِمَ كل هذا التركيز والاهتمام؟)، فأخبرته بأني مثلما أزور المتاحف وأقرأ الكتب، فَعليَّ أن أمنح إهتماماً خاصاً للكتب التي تحتوي على أعمال فنية، أنظرُ الى اللوحات واستلهم التفاصيل والحكايات والألوان والتقنيات، وفي كل مرة أفتح كتاباً من هذه الكتب، أرى تفاصيل جديدة لم أنتبه لها في المرات السابقة. وسط هذه الكتب تُكمن الأجنحة التي تحملنا وتأخذنا معها الى سنوات بعيدة عاش فيها ناس آخرين، وهناك في تلك الأماكن البعيدة نتعرَّف على يومياتهم وأشكال ثيابهم وتفاصيل بيوتهم وبناياتهم وما يحيطهم من أشياء.
شخصياً تعرفتُ من خلال هذه اللوحات على عادات الكثير من الشعوب وجوانب من حياتها. هكذا يمكن أن ينقلنا الفن من الواقع الى عالم غامض يبدو موغلاً في القدم (أو الحداثة)، فالفن هو النافذة المضيئة التي تأخذنا نحو سنوات لم نعشها وأيام لم نر نورها، هكذا يقذف بنا في عوالم بعيدة المنال وغير متوقعة. كل هذا يمنحه لنا الفن بسهولة ودون مِنَّة، أنه أشبه بآلة الزمن التي تصحبنا في دروب حياة الناس البعيدين، نتأمل سحنات وجوههم، ونكاد نسمع أحاديثهم ونتلفت مع إيماءاتهم، مثلما نعرف نوعَ طعامهم ونتلمس نوع ثيابهم الجميلة، نعرف أشكال الكراسي القديمة وطاولات خشب البلوط التي تربظ وسط غرف المعيشة. في هذه اللوحات تُكمن قوة اللون الذي يمدُّ يده نحونا ليصحبنا في رحلة مشوقة ويُرينا كيف كوَّنَ الأشجار والبيوت والبساتين المثمرة، فيما تُعلن الخطوط عن نفسها وهي تمنح التوازن للَّوحات وتمنحها تكوينات جميلة.
علينا أن نعرفَ أن كل لمسة في لوحة هي نغمة عذبة تنعش الروح، وكل معالجة للَّونِ هي وصفة دواء للبصر والبصيرة. ووسط هذا الجمال المتدفق علينا أن نعرف أن لا شيء يأتي عفو الخاطر، وليس كل الفنانين يمكنهم القيام بذلك، بل هناك أساتذة كبار إجتهدوا كي يُرونا جمال إبتكار الأشكال ويبهروننا بعوالمهم الخاصة والنادرة. فمن يستطيع أن يجلبَ لنا وجوهاً فَرِحَة، مثل التي رسمها فرانس هالس؟ تلك الوجود التي تعلوها حمرة الخجل والمحبة والفرح الطاغي؟ من الذي يحول قطعة ملابس صماء الى تحفة فنية دخلت المتاحف كما فعل فيلاسكيز حين رسم مجموعة بورتريهات للأميرة مارغريت بتنورتها ذات الشرائط التي تلتمع تحت الضوء؟ من الذي منح زنابق الماء روحاً حية كما فعل مونيه وهو يرسم حديقته البرتقالية؟
هذا هو عالمي المتخيل والحقيقي أيضاً، عالمي الذي أعيش فيه وأستنشق هواءه كل يوم، هذه هي نافذتي التي لا تُغلق أبداً حيث يأتي ضوء الأشكال التي أراها تتراقص أمامي مثل فتيات الريف في مقاطعة درينته أثناء الأعياد، واللوتي كنتُ ومازلت أنظر اليهن بفتنة لا تُوصف. الفن هو غذائي الذي يُعينني على قسوة الحياة وجفاف آبار المحبة، هو الزهرة التي لا تذبل ولا يلوحها الخفوت، هو الشيء الخالد الذي كان ومازال وسيبقى موجوداً بعدنا الى الأبد. فحتى بعد أن نغلق أبواب أعمارنا مغادرين هذه الحياة سيبقى الفن يطوف في سمائنا خالداً مدى الدهر.
هل فكرتَ يا صديقي أن تمسكَ كتاباً يضم لوحات جميلة وتتمعن بها بهدوء ورويّة دون حساب للوقت؟ ودون التفكير بأي موعد ربما ستتأخر عليه؟ إغلق بابك جيداً وإفتح هذه الفسحة التي تتأمل من خلالها اللوحات، أنظر الى التفاصيل التي أراد الرسام قولها من خلال الألوان والخطوط والتكوينات الصغيرة، أنظر الى نوع النسيج في ثياب النساء بلوحات بوتيشيلي، وتأمل كيف كان شكل النافذة قبل خمسمائة سنة في لوحات فان آيك، وربما ستفتنك خفَّة أقدام راقصات ديغا، وتتعرف على تصاميم قبعات القرن الثامن عشر في لوحات رينوار، أو تتساءل أيضاً وأنت تنظر الى لوحات فيرمير: لِمَ كانت البيوت القديمة تُبنى بالطابوق الأحمر؟ وبين هذه اللوحة وتلك، تبحث عن السبب الذي جعلَ فلاحي هولندا بالقرن الخامس عشر يشبكون ملاعق الأكل في قبعاتهم كما في لوحات يرون بوش؟ ثم تتساءلَ عن السبب الذي دعا جورج برايتنر الى رسم أمستردام دائماً بمناخ ضبابي وغائم، ووسط كل ذلك لا تُخفي تعجبك من لورانس لوري الذي رسمَ مواطني مدينته كأنهم أعواد ثقاب، قبلَ أن تتعرف على طريقة رقص الكانكان وأنت تنظر الى سيقان نساء الطاحونة الحمراء اللواتي رسمهن تولوز لوتريك، ولا مفَرَّ من وقوعك بالنهاية في غواية نساء روسيتي وسحرهن الذي لا يُقاوَم..
أتذكرُ حين وقفتُ ساعة كاملة أمام لوحة بيتر برويغل (ألعاب الأطفال) المعروضة في متحف تاريخ الفن بمدينة فيينا، والتي أنجزها سنة 1560 ورسمَ فيها ثمانين لعبة يقوم بها الأطفال في القرن السادس عشر، حيث يحتشد في اللوحة مئات الأطفال في مشهد أسطوري عَرِفنا من خلاله كيف يقوم الأطفال بتلك الألعاب قبل حوالي خمسمائة سنة. يا للوحة التي لا يمكن لأي كتاب أو أثر فني أن يحل محلها. أمام تلك اللوحة عرفتُ أن الفن هو ثقافة الماضي والحاضر والمستقبل، هذه هي روح الفن الذي ما زال بين أيدينا، وهذا هو الجمال الذي ما فتئنا نستنشقه حتى هذه اللحظة.