الصحافة .. خبرات لا تُدرَّس

سليم عزوز
انشغَلَ الأوَّلون بالإجابة عن سؤال: هل الصحافة مهنة أم رسالة؟ وهو سؤال بيزنطي تجاوزه الزمن، فقد كان في بداية التعرُّف على هذه المهنة غير الواضحة المعالم، لكن الأمر اختلف الآن، فكونها مهنةً لا يتعارض مع أنها رسالة!
والصحافة لكونها مهنة، فإنها أيضاً صنعة. ولأنها كذلك، فإن توافر الموهبة لا يكون بصقلها بالدراسة، ولكن في غرف الأخبار أو صالات التحرير، وليس عبر دورةٍ تدريبيةٍ. فهل الأمر يستدعي أربع سنوات دراسة، يقوم عليها من لم يمرّوا في حياتهم على رصيف صحيفة؟! ولماذا لا يتمّ تعديل المناهج في كليات الإعلام لتمثل الذخيرة المطلوبة من المعرفة للصحفي في حياته ومُمارسة عمله، بدلاً مما يُطلَق عليه “علم لا ينفع، وجهل لا يضر”؟ وليس منطقياً أن يوجد هذا الجدار العازل بين هذه الكليات وبين المؤسسات الصحفيّة، فتعتمد الكليات على الأكاديميين دون الاستعانة بأصحاب الخبرة العريضة في المجال!
لقد تعرَّفنا على صالة التحرير من خلال مُذكرات كبار الصحفيين، من أول «فلاح في بلاط صاحبة الجلالة»، وكانت قيمة الصحف في وجود من يُطلَق عليهم «الأسطوات»، وحرصت الصحف الحزبيّة في مصر على الاستعانة بهم، فنقلوا خبراتهم إلى الأجيال الجديدة من الصحفيين، قبل أن يتولوا المسؤولية في صحفهم. لكن الأزمة كانت في تجرِبة الصحف الخاصة بعد ذلك، حيث الأعمار والخبرات متقاربة تقريباً بين المحرّرين ورؤسائهم، ويحدث أن يكون رئيس التحرير فقط هو المختلف، وهو أمر لا يكفي لإدارة صحيفة. فأين هي الخبرات التي تُنقل لأجيالٍ نشأت على أن الصحافة ليست أكثر من «كتوبة»، وعناوين مُثيرة قد لا تجد في المتن ما يُسند إثارتها؟! المطبخ الصحفي يضم سدنة المعبد، وهم العاملون في «الدِسْك»، المختص بالمُراجعة والضبط والربط والتدقيق. ويُقال إن هيكل أول من اخترعه، لكن الحقيقة أن الكاتب الكبير عندما تولى رئاسة تحرير الأهرام حرص على المؤسسية، فجعله قسماً. وهو لم يخترع وظيفة الكاتب من الهواء، فقد حرص مصطفى أمين على استكتاب كبار الكُتّاب، مع تفرّغهم، لكنه لم يجعلهم أحد المسميات الوظيفية في دار «أخبار اليوم»!
وهيكل، الذي جعل الأمر مؤسسياً، خصص مكاتب لكبار الكُتّاب، وحرص على حضورهم، وجعل من الراتب الشهري، هو مُقابل الحضور، لنقل خبرات الحياة. ومهم أن يعرف الصحفي أنه يعمل في مؤسسة فيها توفيق الحكيم، وزكي نجيب محمود، ولويس عوض، وصلاح عبد الصبور، وعبد الرحمن الشرقاوي!
والمُراجعة أو «الدِسْك» كانت في «أخبار اليوم» بدون مُسمَّى، وكان يقوم بها مصطفى أمين بنفسه. وفي موضوعات عبد العاطي حامد، التي انتحل فيها صفة طبيب وغير ذلك، يتردد أن من كتبها هو أنيس منصور، فلا يمكن – لهذا – التمييز فيها بين الواقع والخيال. وأنيس خياله واسع، ولا يصلح مرجعاً تاريخياً، وأنا لم أصدّقه عندما روى حكاية بينه وبين الرئيس عبد الناصر تطعن في إيمان الرئيس!
ومشكلة المدرسة الصحفيّة هي أنها شفهية، إلا إذا تمَّ تدوينها في كتب. وفي زماننا هذا صارت الكتب من هذا النوع قليلة. وألحّ على المقرّبين من الكاتب الكبير فهمي هويدي أن ينتهي من كتابة مذكراته، لتستفيد منها الأجيال الجديدة. وقد عرض لجانب منها في مُقابلة مع «مِنصة نبراس»، لكن لا بدّ من الكتابة! والتجارِب هي خير مُعلِّم، وليست المقررات الدراسية العقيمة. وقبل أن أشرعَ في كتابة هذه السطور، طرأت على ذاكرتي واقعة قديمة عمرها ثلاثون عاماً، كان لها أثرها في ألا أكون حسن النيّة فيما يصلني من مستندات ووثائق. «ومن لسعته الشوربة ينفخ في الزبادي». فقد كنت مُشرفاً على صفحة «النادي السياسي»، عندما جاءني مُحرر شاب ب «خَبْطة»: إنه استجواب ضد الرجل القوي ووزير شؤون البرلمان كمال الشاذلي. ومع أنه وزير بدون وزارة، إلا أنني رأيت أن هناك وجاهة في الأمر، فمن حق النائب أن يستجوب الوزير، والشاذلي هو وزير. والإثارة في الموضوع أنه لم يكن أحد يمكنه أن يفعل هذا ضد الشاذلي، الذي وصفه أحد المحررين البرلمانيين ب «البعبع»!
قدّم الاستجواب أحد النواب، الذين كانوا من نجوم برلمان (1995–2000)، وكان مُتخصصاً في مناكفة وزير الثقافة فاروق حسني، ورئيس المجلس فتحي سرور يُعطيه المساحة التي يريد. ويبدو أن بينه وبين فاروق حسني شيئاً، فقد كان يأخذ النائب على «كفوف الراحة»!
بحثت عن النائب عبر جوجل لأعرف أين أراضيه؟ فلم أجد سوى مادة واحدة، هي عبارة عن هذا الاستجواب. وناشر الفيديو هو فاروق حسني نفسه!
نشرنا تقريراً موسّعاً عن الاستجواب، وفي صباح يوم النشر، تلقيت اتصالاً من كمال الشاذلي، يُكذِّب وجود استجواب ضده من أصله، ثم يُعطي سماعة الهاتف للأمين العام للمجلس المُستشار سامي مهران، الذي ذكر لي رقم الاستجوابات وطلبات الإحاطة لهذا النائب، وليس من بينها استجواب ضد الوزير كمال الشاذلي!
لم يكن الزميل في الجريدة وقتئذٍ، ولم تكن هناك وسيلة اتصال به، فالواقعة قبل زمن الهاتف النقال. فاتصلت بمكتب النائب أكثر من مرة، لكنه لم يكن موجوداً.. هكذا قالت سكرتيرته. وفي المرة الأخيرة، أخبرتها أنني أريد التواصل معه لأمر مُهم، لتسألني إن كان لموضوع الاستجواب، فسيادته لم يتقدّم باستجواب فعلًا. وأُسقِط في يدي! إنها مشكلة الزميل إذن، فهل يمكن أن يكونَ قد اخترع أمرًا كهذا؟!
دخل الزميل ومعه الاستجواب الضخم، المكتوب على الآلة الكاتبة، فلم تكن أجهزة الكمبيوتر قد ذاع صيتها. ولكني وقفت على أنه ليس عليه ختم المجلس بما يفيد تقديمه فعلًا. فالنائب كتبه ليقدّمه لنا، وليس للبرلمان. وبصدور عدد الصحيفة مساءً، حدث اللقاء مع الوزير، وتمَّت تسوية بعض المُشكلات، وتنفيذ بعض الرغبات الوظيفيّة لأبناء الدائرة الكرام! إنها خبرات من خارج المنهج الدراسي!
كاتب وصحفي مصري