الصحافة.. ومحنة ادّعاء المهنية

عبد الكريم البليخ
تُطلّ علينا من نوافذ الصحافة وجوهٌ لا نعرفها، وأصواتٌ لا تمتّ لنبض المهنة بصلة، لكنها مع ذلك تُنصّب ذاتها أوصياء على الحقيقة، ومندوبين عن الضمير، وناطقين باسم الرأي العام. هؤلاء الذين يُثيرون فيك الحنق، ويُصيبونك بارتفاع مفاجئ في ضغط الدم وربما السكري، ليس لأنهم اجتهدوا فأخطأوا، بل لأنهم دخلوا على المهنة من باب خلفي لا يُشبه هيبتها، وادّعوا امتلاك مفاتيحها، بينما لم يقرأوا حتى أسماء أبوابها.
إنها المأساة حينما تتحوّل المهنة إلى عباءة يتدثّر بها الطارئون، ويُهلّل لهم من في داخلها بدعوى الجدوى والمصلحة، فيتواطأ الداخل مع الخارج، ويُكرّس الخطأ، ويُصنَّف الادّعاء على أنه اجتهاد. وفي هذه اللحظة الفارقة، لا يعود الصحفي ابن وجدان الناس، ولا لسان حالهم، بل يصبح مجرّد موظف تسويقي، أو مروّج لنفسه، أو خادم لجهةٍ تُحدّد له إطار النشر ومضمونه.
ما يؤلم أكثر من حضور هؤلاء، هو التبني المتواطئ من بعض أصحاب القرار داخل المؤسسات الصحفية. حينما يشعر القائمون على صحيفة أو مجلة بالاختناق، وبضيقٍ في الموارد أو عجزٍ عن التطوير، لا يبحثون عن الأصالة أو التجديد الحقيقي، بل يسارعون إلى استدعاء هذا “المدّعي” بوصفه قارب النجاة، فهو ـ من وجهة نظرهم ـ سيُنعش الإيرادات، ويُعيد بعض الحياة لمؤسسة تحتضر، لا لتميزه أو مبدئيته، بل لأنه يكتب “بلا شروط”، ويستجيب “بلا تحفظ”، ويُرضي السوق بلا خطوط حمراء.
هكذا إذن تتحوّل الصحافة من مهنة نبيلة إلى سوق مفتوح، حيث تُباع الأفكار كسلع، وتُشترى الأقلام كما تُشترى الإعلانات، ويصبح المدّعي ركيزة أساسية في معادلة “الإنقاذ الاقتصادي”، حتى وإن كان ثمن ذلك هو تهشيم أعمدة المهنة ذاتها. والمؤلم أن بعض المؤسسات ترى في هؤلاء “مشروعاً استثمارياً” أكثر من كونهم تهديداً وجودياً.
هذه المنظومة المختلّة لا تدفعك إلى الحيرة فحسب، بل قد تُغريك بالعناد، وتستفزّ فيك كبرياء المهنة، لتقف في وجه موجةٍ من الخداع المنظم، وتُحاول أن تُقنع نفسك أن الحق لا يزال له مكان، وأن المهنية ليست تراثاً مندثراً. لكنك، في لحظة صدق مع الذات، قد تدرك أنك تعيش في زمن يستطيع فيه الجاهل أن يتفوّه بالحكمة، والمزور أن يُقدَّم على أنه المرجع، والمغتصب أن يتصدّر بوصفه الرائد.
ومن هنا تبدأ المعضلة الأخلاقية: هل تصمت وتدع التيار يجرفك، أم تقف، وإن كنت تعلم أنك تُغرّد خارج السرب، وربما تُتّهم بأنك حالم في زمنٍ لا يحتمل الأحلام؟ فهؤلاء الأدعياء لا يكتفون بموقعٍ هامشي، بل يصعدون، ويُصفّق لهم، ويُعاد تدويرهم في كل محفل، ويُمنحون ألقاباً كانوا بالأمس لا يجرؤون حتى على نطقها.
ولعلّهم، في قرارة أنفسهم، يعتقدون أن النجاح لحظة، وأن سلّم الصعود لا يحتاج أكثر من فكرة واحدة ـ ولو كانت مسروقة ـ ليبلغوا القمة. وهكذا تراهم يتسلّقون، لا على أكتاف الإبداع، بل على أنقاض الجهود الصادقة لغيرهم.
المدهش أن هؤلاء غالباً لا يبرحون أماكنهم. إنهم عالقون في ذات المستوى من التكرار، عاجزون عن التطور الحقيقي. وإن طالت إقامتهم في مؤسسات بعينها، فذلك لا يعني نجاحاً، بل يشي بنوعٍ من الجمود، أو تواطؤٍ طويل الأمد، يجعلهم أشبه بقطع أثاث قديمة يعرف الجميع عيوبها، لكن لا أحد يجرؤ على استبدالها.
في هذا المشهد المتصدّع، تتحول الأخطاء إلى أعراف، والممارسات الهشّة إلى أعمدة تُعلّق عليها أسماء ضخمة، فيُصبح الصحفي المدّعي، بعد حين، “رمزاً للفرصة” و”أسطورة الاستغلال الناجح”، يتغنى بمكاسبه، ويُقدَّم في بعض الأوساط على أنه النموذج الذي ينبغي الاحتذاء به!
وهنا تتداخل الأبعاد النفسية مع الاجتماعية. فهؤلاء الأشخاص لا يُسيئون لأنفسهم فقط، بل يُكرّسون في وعي الأجيال المقبلة مفاهيم ملوّثة عن النجاح والانتماء والصدق. كيف لأحدهم أن يُدافع عن الحقوق، أو يُطالب بالعدالة، وهو قد بدأ مسيرته باقتراف جريمة مهنية؟ وكيف له أن يُسائل الآخرين، وهو لم يُسائل ضميره يوماً؟
ولأن البنية العائدة للمؤسسات الصحفية لا تزال تقليدية في كثيرٍ من بلادنا ـ من حيث الإدارة، والتخطيط، والرؤية ـ فإن وجود مثل هؤلاء الأدعياء يُصبح أكثر من ظاهرة؛ إنه جزءٌ بنيوي من الأزمة. فبدل أن تُستثمر الإمكانيات في بناء كادر محترف، ذي كفاءة، يُصار إلى تدوير الوجوه، وتجميل القبح، واستدعاء “المألوف” حتى وإن كان فاسداً، طالما أنه يُرضي المزاج العام، ويُقلّل من المتاعب.
تاريخياً، الصحافة لم تكن في يوم من الأيام مهنة من لا مهنة له. كانت في جوهرها رسالة، وموقف، وجرأة. كانت المنبر الذي يعبّر عن الناس لا يُتاجر بهم. واليوم، حين نرى هذه الأدوار تتشوّه، و”الإعلامي” الجديد لا يُفرّق بين الرأي والخبر، أو ينسخ مادة زميله ويعدّها إنجازه الخاص، فإننا لا نكون أمام أزمة فردية، بل أمام تفكك منظومة بأكملها، وسقوط تدريجي لمعايير الصدق والاحتراف.
هذا “القص واللصق” الذي بات سمة سائدة، لا يُشير فقط إلى انعدام الأخلاق المهنية، بل إلى كساد فكري، وسطحية فكرية لا تليق بمهنة تنحت الكلمة كما ينحت النحّات الحجر. فالمادة الصحفية التي تأخذ وقتاً وجهداً وإحساساً صادقاً، تُنسخ اليوم خلال دقائق، مع تغيير العنوان وبعض المفردات، لتُقدَّم على أنها مادة جديدة.
والمؤسف أن هذا النوع من التطفل يلقى أحياناً إعجاباً ساذجاً من جمهور لا يُمحّص كثيراً، ولا يُفرّق بين الصحفي الصادق وصانع المحتوى السريع، فيزداد التشوّه، وتُقتل الأصالة.
إن القضية ليست فقط في من يدّعي المهنية، بل في من يروّج له، ويمنحه الشرعية، ويغض الطرف عن التجاوزات، ويحتفي بالكلام المزخرف دون تدقيق في حقيقته. لذلك، فإن الصحافة الحقيقية ـ حتى وإن بقيت في الظل ـ تبقى شاهدة على عصرها، وتحتفظ بجذوتها، لأن جوهرها ليس في كثرة المتابعين، بل في صدق الموقف، واستقلالية الضمير، وجرأة الانحياز للحقيقة.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في معمار المهنة، في ركائزها، في بوصلتها. ليس عبر منع أحد، أو وصمه، بل من خلال تجديد المعيار، واستعادة الوعي. فالصحفي ليس “منتج محتوى”، وليس “رقماً” في لائحة الممولين، بل هو شاهد على الحياة، وصانع لوعي الناس.
والصحافة، ما لم تسترد هيبتها، ستظل مهنة مستباحة، يتسلّقها كل من وجد في صراخه فرصة، وفي سطوره وسيلة للارتزاق، بينما تغيب الكلمة الصادقة، أو تُقمع بصمتٍ بارد، وتُقصى لحساب الجلبة.
نحن بحاجة إلى تطهير داخلي، إلى غربلة حقيقية، لا تُقصي المختلف، بل تُقصي المدّعي. إلى مساحة تحفظ للأصيل مكانته، وتُعيد للكتابة وهجها، وتمنح القارئ فرصة أن يُصغي لا أن يُخدَع.
ولربما لم نعد نملك ترف الصمت. فالصحافة، بوصفها ذاكرة الأمة، ومحرّك وعيها، تستحق أن يُدافع عنها أولئك الذين مرّوا من نيرانها، وعرفوا صقيعها، وتحمّلوا ضجيجها من أجل كلمة تُقال بصدق، ولو في زمن يعلو فيه الزيف.