Site icon المزمار الجديد

الطلاق أبغض الحلال

عبد الكريم البليخ

لم يكن المشهد عادياً. لا أبداً. للمرة الأولى في حياتي وجدتني واقفاً وجلاً، تتزاحم الدموع في عينيّ، وأنا أشهد صديقاً عزيزاً يُطلق زوجته بالثلاث. عشرون عاماً، وربما أكثر، من العيش المشترك، من الصبر والصخب، من الأمل والخوف، انطوت كلها في لحظة واحدة، لحظة بدت لي كطلقات نارية مزّقت سكون المكان، وارتد صداها إلى أعماقي. لم أستطع الاحتمال، فغادرت مسرعاً إلى ساحة الشقة الصغيرة حيث أقيم مع أسرتي، مطأطئ الرأس، مُثقلاً بحزن لم أعرفُ له مثيلاً من قبل.

إنها المرة الأولى التي أكون فيها شاهداً على انهيار بيت، على انطفاء قصة كان يُمكن أن تكون حياة متجدّدة. ومع ذلك، لا مَفر من الاعتراف بأن الطلاق، رغم مرارته، يظل حلالاً أبَاحه الله، لكنه أبغضُ الحلال. ففي كثير من الأحيان يكون هو المخرج الأخير حين تضيق السبل وتتشابك الخلافات، وحين يُصبح البقاء معاً ضرباً من العذاب الذي لا يُطاق.

لكن ما جعل الموقف أشدّ قسوة هو أن القرار لم يكن وليد لحظة غضب عابرة، ولا ثمرة اندفاع أعمى، بل نتيجة إلحاح متكرّر من الزوجة، وإصرار تام على الانفصال، حتى كأنها كانت تحفر طريقها نحوه منذ زمن بعيد. لم يكن القرار إذن طيشاً أو هوى، بل كان يقيناً تراكم عبر السنوات، قناعة بأن الحياة المشتركة لم تعد ممكنة، وأن الانفصال أهون الشرّين. ومع ذلك، يبقى السؤال المؤلم: ماذا عن الأبناء؟

ستة أطفال، أصغرهم لم يتجاوز الرابعة، وجدوا أنفسهم فجأة في مهب الريح. كيف سيواجهون العالم من دون حضن يجمع شتاتهم، من دون بيت واحد يؤويهم؟ إن معاناة الطلاق لا تقتصر على الرجل والمرأة فحسب، بل تتعداهما إلى الأبناء الذين يدفعون الثمن الأغلى، فينبتون على قلق دائم، وأرواحهم مشروخة منذ الصغر.

ولئن كان الزواج في أصله ميثاقاً غليظاً، ورباطاً يُظلل الحياتين معاً بالسكينة والمودة، فإن علاقة صديقي بزوجته لم تعرف منذ بدايتها أي دفء حقيقي. لقد قامت على أساس هشّ، لا حُبّ فيها ولا تفاهم، بل على سلسلة لا تنتهي من الخلافات. من أولى لحظات الارتباط، كان كل منهما يعيش في وادٍ بعيد عن الآخر، يلتقيان شكلاً ولا يلتقيان مضموناً. ومع ذلك، مضت السنون، واستمر الزواج إمّا بحكم العادة أو مراعاة للناس، حتى انتهى بهما الحال إلى الطلاق بعد أن استحالت الحياة المشتركة.

ولعلَّ الاغتراب قد زاد الطين بلة. فالزوج عاش سنوات طويلة بعيداً عن أسرته، يجاهد لتأمين لقمة العيش، بينما كانت الزوجة تتحمل وحدها عبء التربية والمسؤولية. ورغم أنه لم يقصر في إرسال ما تحتاجه الأسرة من المال، فإن ذلك لم يكن كافياً لبناء جسر من المودة والرضا بينهما. المال وحده لا يرمّم الفجوات، ولا يُحيي مشاعر ذابلة. كانت الزوجة تطلب الطلاق مرة بعد أخرى، مؤكدةً أن ما بينهما ليس حياة بل صراع مستمر.

وحين وقع الطلاق، كان وقعه عليّ صاعقاً. فقدت بسببه شيئاً من إيماني بالتماسك الاجتماعي الذي نحرص على تبجيله. حاولت مع كثير من الأصدقاء التدخل، رجونا الطرفين أن يمنحا أنفسهما فرصة أخرى، أن يفكرا في الأبناء على الأقل، لكن دون جدوى. كانت الزوجة مصممة على الانفصال، ولم تنفع معها مغريات ولا توسلات. وكأنها قررت أن تحسم أمرها أخيراً بعد سنوات من الصراع الداخلي.

ومع ذلك، لا أظن أن الطلاق يعني بالضرورة الفراق الأبدي. فقد علمتني الحياة أن الأيام حافلة بالمفاجآت، وأن القلوب قد تلين بعد قسوة، وقد تنفتح من جديد لما أغلقته بالأمس. فربما تأتي لحظة يلتفت فيها الطرفان إلى الوراء، فيكتشفان أن الأبناء يستحقون فرصة جديدة، وأن العودة ممكنة بالكلمة الطيبة، وبصدق الرغبة في تجاوز الماضي، وبالاعتراف بالأخطاء لا بإنكارها.

غير أن ذلك يحتاج إلى إرادة صلبة، وإلى وعي بأن الزواج ليس مجرد عقد أو سكن مؤقت، بل هو مشروع حياة، يقوم على الشراكة والاحترام والتنازل المتبادل. يحتاج الأمر إلى أن يدرك الرجل أن المال وحده لا يكفي، وأن الزوجة إنما تحتاج إلى حضور واحتواء وحنان. كما يحتاج إلى أن تدرك المرأة أن الصبر أحياناً قد يفتح أبواباً للحل، وأن إصرارها على الطلاق قد يترك جروحاً عميقة في نفوس أبنائها.

إن الطلاق، وإن كان حلالاً، لا يجب أن يكون أول الحلول ولا أسرعها. بل هو آخر الدواء، بعد أن تُستنفد كل وسائل الإصلاح. ففي مجتمعنا، الطلاق ليس مجرد انفصال بين رجل وامرأة، بل زلزال يهزُّ العائلة كلها، ويترك ندوباً على جدرانها. إنه تجربة تفرض علينا إعادة التفكير في معنى الزواج ذاته: هل هو التزام مؤقت؟ أم أنه مسؤولية غليظة تحتاج إلى وعي وصبر وتضحيات؟

وقفت طويلاً أمام تجربة صديقي، وتأمّلت في الوجوه الصغيرة التي ستكبر بلا دفء أسري مكتمل. سألت نفسي: هل كان بالإمكان تلافي ما جرى؟ هل كان يُمكن أن يختارا من البداية طريقاً مختلفاً؟ ربما. لكن الأكيد أن الحياة تمضي، وأننا جميعاً معنيون بتعلّم الدرس: أن نُحسن الاختيار من البداية، وأن نضع في اعتبارنا أن الزواج ليس لعبة، وأن بناء بيت متماسك أصعب بكثير من هدمه.

إن ما أرجوه حقاً هو أن يجد الأبناء من يحتضنهم، وأن يدرك الوالدان أن مسؤوليتهما لا تنتهي بتوقيع ورقة الطلاق. فالأب يبقى أباً، والأم تبقى أماً، والرحمة وحدها كفيلة بأن تداوي ما كسره الغضب واليأس. وربما، مع مرور الوقت، تلوح بارقة أمل تعيد شيئاً من التوازن، أو تفتح أبواباً جديدة للسلام الداخلي.

إن الطلاق أبغض الحلال، نعم، لكنه قد يكون أحياناً باباً للحرية إذا صار العيش معاً سجناً. غير أن حقيقته الأعمق أنه جرح لا يندمل بسهولة، وندبة تبقى شاهداً على أن إنسانيتنا ليست كاملة، وأننا، مهما حاولنا، نظل معرضين للخذلان. لكننا، في الوقت نفسه، قادرون على النهوض، وعلى استعادة بعض مما فقدناه إذا صدقنا في المحاولة.

14/9/2025

Exit mobile version