يوميات

في قطر .. الديوانية عنوان الأصالة

عبد الكريم البليخ

في زيارتي الأخيرة إلى الدوحة، التقيت الأستاذ والزميل الكبير سعد الرميحي، رئيس المركز القطري للصحافة، وعميد الصحفيين الرياضيين العرب، في ديوانه العامر الذي يحتضن فيه مساء كل يوم أربعاء ضيوفاً ونخباً من المثقفين.

في مجلسه الوثير يستقبل ضيوفه، فيتجدد المشهد ذاته الذي بات علامة فارقة في الحياة الاجتماعية القطرية: صفوف من النخب الثقافية والفكرية، وجموع من أبناء البلد والوافدين، يلتقون في حضرة مكانٍ يجمع القلوب قبل أن يجمع الأجساد. ما أجمل أن ترى ذلك التدفق البشري نحو الديوان، لا بدافع الحاجة ولا طمعاً في مصلحة، بل حبّاً في قطر، وإيماناً بأن التلاقي الحي والمباشر بين الناس ظلّ ولا يزال أوثق من كل شاشات العالم الافتراضي.

الدواوين في قطر ليست مقاعد عابرة ولا جدراناً صامتة؛ إنما هي ذاكرة جمعية تختزن حضور الإنسان، وتؤكد أنّ الروح القطرية لم تنقطع عن جذورها. هناك، بين جدرانها العامرة، تتجلى روح الأصالة التي يحافظ عليها أهل البلد جيلاً بعد جيل، حتى غدت هذه الدواوين بمثابة مدارس للحوار، وجسور تمتد بين أهل الدوحة وضيوفها من كل حدب وصوب. في تلك المجالس، يتساوى المقيم بالضيف، ويشعر الغريب وكأنه عاد إلى بيته الأول.

وليس غريباً أن يفتخر القطريون بهذه الظاهرة، فهم يرون فيها مرآة صادقة لروحهم الوطنية، ووجهاً مشرقاً لبلدهم الذي يمضي بخطى ثابتة نحو المستقبل من غير أن ينسى ماضيه. لقد أدرك أبناء قطر أنّ التمدّن الحقيقي لا يُقاس بعدد الأبراج ولا بما تحققه التكنولوجيا، بل بما يحافظ عليه المجتمع من روابط إنسانية عميقة، وما يقدّمه من فضاءات لقاءات حيّة تعطي للناس فرصة أن يتبادلوا الأفكار والمشاعر وجهاً لوجه.

تلك الدواوين لم تعد حكراً على أصحابها أو على طبقة محدودة من المجتمع؛ بل صارت فضاءً مفتوحاً تتقاطع فيه مسارات الشعراء والروائيين مع العلماء والمفكرين، ويجلس فيه الفنان جنباً إلى جنب مع رجل الدين، ويشارك فيه المثقف كرسيه مع العامة من الناس. هذا التنوّع لم يأتِ مصادفة، بل هو انعكاس لإرادة صادقة في جعل الديوانية مساحة جامعة، تُثريها الرؤى وتغنيها التجارب، وتمنحها الحياة أصواتاً متعددة تشكّل في مجموعها نسيج المجتمع القطري.

لقد سعدت، خلال إحدى زياراتي للدوحة، بأن أكون شاهداً على هذا المشهد. جلست بين أولئك النخب المثقفة، أستمع إلى حوارات تتنقّل بين الأدب والسياسة والفن والدين، وأراقب وجوهاً يضيئها الفرح باللقاء. كان المشهد أشبه بواحة من التواصل الإنساني الصادق، حيث تتراجع المسافات بين الناس، فلا مكان لعزلة أو شعور بالاغتراب. هناك، في قلب الديوان، أحسست أنني جزء من عائلة كبيرة، عائلة اسمها قطر.

وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي قد غزت حياتنا حتى صارت بدائل يومية عن اللقاء المباشر، فإن الدواوين القطرية تذكّرنا بأن حضور الجسد ودفء الكلمة ونظرة العين لا يمكن أن تُعوّضها أي شاشة. فالإنسان لا يكتفي بالمتابعة عن بعد؛ هو بحاجة إلى مكان يضع فيه قلبه بين قلوب الآخرين، يشاركهم الطعام والحديث والضحك، ويخرج مثقلاً بذكريات جديدة تنسج خيوطاً في نسيجه الإنساني.

إن هذه الدواوين، بما تحمله من حفاوة بالضيف وبذل في الكرم، ليست مجرد تقليد اجتماعي عابر، بل هي مشروع وطني يستحق كل دعم ورعاية. فهي تحفظ للناس شعورهم بالانتماء، وتمنح الضيوف صورة مشرقة عن المجتمع القطري، وتتيح للأفكار أن تتلاقح وللرؤى أن تتبلور في فضاء حرّ. لكن مثل هذه المشاريع، مهما كانت قوية بجذورها، تظل بحاجة دائمة إلى التطوير، حتى تظل حيّة نابضة قادرة على مواجهة تحديات العصر.

من هنا، يبرز الدور الكبير لأبناء قطر الذين حملوا هذه الرسالة جيلاً بعد جيل. لقد أدركوا أن الحفاظ على الديوانية ليس مجرد حفاظ على مبنى أو عادة، بل هو صون لروح بلد بأكمله. وما أجمل أن نرى شباب اليوم يواصلون هذا الإرث، يوسّعونه ويغنونه، فيضيفون إليه لمسات جديدة من الفكر والتنظيم، من غير أن يفقدوا جوهره الأصيل.

إنّ الدواوين في قطر هي صورة حية لمجتمع متماسك، يعي قيمة الحوار، ويكرم ضيوفه، ويحتفي بأبنائه. هي مساحات للالتقاء والتآلف، تُذكّرنا بأن الإنسان، مهما بلغ من تطوّر، يظل محتاجاً إلى دفء اللقاء، إلى مجلس يعترف بإنسانيته، ويمنحه حقه المشروع في التعبير والمشاركة. ولعل أجمل ما فيها أنها تزرع في القلوب يقيناً بأن الحب للوطن لا يُقاس بالكلمات وحدها، بل بما يبذله الناس من جهد ليبقوا جذوره حيّة متجددة.

مبارك لقطر وأهلها هذه الدواوين، ومبارك لهم هذا الوجه المشرق من حياتهم الاجتماعية. إنها جديرة بأن تُحاط بالرعاية، وأن تُبارك من القلب، وأن يُدعى لها بالاستمرار والتقدّم والازدهار. فالديوان، في نهاية المطاف، ليس مجرد مكان يجتمع فيه الناس، بل هو بيت الوطن الصغير، حيث تنعكس صورته، وتترسّخ هويته، وتبقى روحه حاضرة على مرّ الأزمان.

2/9/2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى