في الشبكة

الهلال يُواجه رقص السامبا

عبد الكريم البليخ

في لقاء اليوم الذي يلتقي فيه الهلال السعودي ضدّ فلومينينسي البرازيلي، لا يكون الأمر مجرد مواجهة كروية، ولا حتى مجرّد بطولة ضمن سياق رياضيّ محدود. إنها لحظة كثيفة بالإيحاءات: اجتماعٌ عابرٌ للحدود، تقاطعٌ بين الجغرافيا والهوية، وتأملٌ طويل في ما يعنيه النصر وما يعنيه الانتماء.

الهلال، بطل السعودية ونجم القارة الآسيوية، يواصل شقّ الطريق الوعر في كأس العالم للأندية. يرفع علمه، لا كسفيرٍ لنادٍ فقط، بل كرمزٍ لسردية أكبر: سردية الطموح العربيّ الذي يحاول أن يكتب اسمه، لا كضيف شرف، بل كمنافس حقيقيّ على الساحة العالمية. ورغم أنّ جماهير النصر والاتحاد والأهلي قد تتابع اللقاء بقلوبٍ منقسمة، بين إعجابٍ خافت وغصةٍ منازِلة، فإن ما لا يُمكن إنكاره هو هذا: أن الهلال، بأدائه أمام ريال مدريد ومانشستر سيتي، قد أجبر الجميع على الاعتراف.

من المدهش أن فريقاً عربياً وقف بهذا القدر من الندية أمام أقطاب أوروبا الكروية. لم يكن أحد يتوقع أن يستطيع نادٍ آسيوي أن يبادل مانشستر سيتي السيطرة والفرص، أو أن يجعل ريال مدريد، ولو لبرهة، يعيد ترتيب أوراقه. وهذا ما يثبته الهلال: أن الأداء، لا النتيجة، هو ما يُصنع به المجد. لأن الأداء صيرورة، واستعداد مستمرّ للارتقاء. أما النقاط، فهي أرقامٌ قد تُنسى، ما لم تكن محمولة على ظهرِ روحٍ متوثّبة.

لكن اليوم، المشهد مختلف. فلومينينسي ليس ريال مدريد، وليس مانشستر سيتي. إنه نهرٌ آخر، نهرٌ برازيليّ الملامح، أفريقيّ الأثر، وعاطفيّ العمق. يحمل تاريخاً كروياً جريحاً، تخلّف عن الركب منذ سنوات، وها هو الآن يأتي إلى كأس العالم للأندية وفي عينيه جوعُ العودة. الفريق البرازيلي لا يلعب فقط من أجل النصر، بل من أجل الكرامة، والكرامة في السياق البرازيلي تعني أكثر بكثير من انتصار رياضي: إنها ردّ اعتبارٍ لثقافةٍ بأكملها، ثقافة الكرة الممتعة التي غابت عن المشهد، فحاولت أن تستعيد صوتها بالعرق، بالحماسة، بالعنف المشروع الذي يُولد حين يتحوّل اللعب إلى ما يشبه الحرب.

تأهل فلومينينسي بالفوز على إنتر ميلان الإيطالي، بثنائيةٍ نظيفة، في أداءٍ تميز بالروح الجماعية، بالاندفاع، وبالالتزام الفطري الذي يُولد حين تتحوّل الجماهير إلى ضوءٍ في عيون اللاعبين. على الضفة الأخرى، جاء تأهل الهلال بطريقةٍ مختلفة: بانتصارٍ غير متوقع على مانشستر سيتي، عبر خطة دفاعية محكمة، بروحٍ إيطالية خالصة، قادها إنزاغي بفلسفةٍ عميقة تعي متى تترك الكرة، ومتى تُشنّ الهجمة، ومتى تصير المساحات نفسها حلفاء.

في هذا التباين، تكتمل صورة المواجهة. نهران يتدفقان باتجاهين مختلفين: نهر برازيليّ يندفع بجنون الكرامة، ونهر أزرقٌ سعوديّ يتهادى بثقةٍ، ويحمل في داخله كل التيارات الخفيّة للمجهود الجمعي، ولحلمٍ أكبر من مجرد انتصار.

ومع حلول موعد اللقاء، يعود المشهد الذي شاهدناه مع منتخب المغرب في مونديال قطر: شاشةٌ تجمع أطياف الأمة من الخليج إلى المحيط، مقاهٍ تمتزج فيها الروائح بالنشيد، وعيونٌ عربية تتابع لحظةً واحدة، وكأنها تقترب من لحظة إجماعٍ عصيّة على السياسة، والفن، والإعلام. هذا هو سحر كرة القدم: قدرتها على خلق وحدة وجدانية غير معلنة، طارئة، لكنها أكثر صدقاً من كل البيانات الرسمية. توحّدنا لا كاستراتيجية، بل كحاجة.

اليوم، الهلال لا يقف وحده. خلفه تقف أسئلة كبيرة: عن الإمكان العربيّ، عن الصورة، عن السردية، عن إمكانية أن يتجاوز الإقليم ذاته، لا بالنفط ولا بالإعلام، بل بقدرة “النادي” على أن يُصبح رمزاً.

فلومينينسي، ساكن مدينة ريو دي جانيرو، يأتي إلى المباراة كأنّه موجٌ عميق يحمل عبء الذاكرة البرازيلية: إيقاع السامبا، روح الشارع، الكُرة التي لا تُدرّس بل تُعاش. لكن الهلال أيضاً لا يأتي خفيفاً، إنه يحمل طبقات من الزمن، من المعاناة، من البناء، من الشغف، من البنية التحتية التي لم تكن موجودة قبل سنوات. الملعب السعوديّ لم يكن يُخشى، حتى صار يُحسب له حساب.

وهكذا، بينما تتواجه الكتيبتان، تنعكس خلف كل منهما فلسفة كاملة. كرة القدم لم تعد مجرد رياضة؛ إنها وجه للثقافة، وساحة للتمثيل الرمزيّ. كل تمريرةٍ هي سطرٌ في خطابٍ طويل. كل تصدٍّ هو ردٌّ على صورة نمطية. كل هدف هو كتابة جديدة في هويةٍ مأزومة.

الهلال، إذن، في هذه المباراة لا يلعب فقط ضد فريقٍ برازيليّ، بل ضد كل الشكوك، ضد كل الاستعلاءات القديمة، وضد ذاكرة طويلة من التهميش الكرويّ. وفلومينينسي لا يواجه الهلال فقط، بل يواجه خفوت راية الكرة البرازيلية في محافل العالم، ويحاول أن يُعيد بريقاً مضى.

وما بين ضربة البداية وصفارة النهاية، هناك لحظة فريدة تتجاوز المباريات. إنها لحظة رؤية الذات في مرايا الآخرين، لحظة إدراك أن كرة القدم، بما تحمله من تكتيك وعاطفة وجمال، قد تكون أصدق ما يُعبّر عنّا.

في الأخير، سواء انتصر الهلال أو فلومينينسي، فإن ما يبقى هو ما وراء النتيجة: الأداء، والروح، وكرامة المحاولة. فالهلال، في رحلته هذه، لم يرفع راية نادي فقط، بل راية حلم عربيّ طويل يتعثّر أحياناً، لكنه يواصل المشي، وفي عينيه إيمانٌ بأنّ الموج، مهما ارتفع، يمكن أن يُروَّض… حين تكون الروح مشتعلة بما يكفي.

لذلك، فإن مباراة الليلة ليست مجرّد مواجهة بين فريقين. إنها مواجهة بين تاريخين، بين مسارين من الحلم، بين جنوبٍ عريق وآخر نهض من الرمال. وربما، في لمعة هدفٍ مفاجئ أو في وقفة حارسٍ أمام تسديدة مصيرية، سنعرف أن كرة القدم، كما القصيدة، لا تُكتب فقط بالكلمات، بل بما لا يُقال.

وهذا بالضبط ما يجعل الهلال في هذا المشهد ليس مجرد نادٍ سعوديّاً ناجحاً، بل شاهداً على تحوّل ثقافيّ واجتماعيّ كامل. شاهداً على لحظةٍ يفهم فيها العرب أن الطريق إلى العالمية ليس بتمثيل الآخرين… بل بأن تكون أنت، وبملء حضورك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى