بحثاً عن الضوء

ستار كاووش
ها هو الصيف يفرش تأثيره في كل مكان، حاملاً معه الألوان الصريحة والضوء الذي يبحث عنه الفنانون في أرجاء المعمورة. إنه مرادف للألوان الزاهية، الصريحة، الدافئة، والمبهجة. وبما أن فن الرسم لا يمكن أن يحيا أو يكون دون ضوء، لذا يبحث العديد من الفنانين عن أماكن تشرق فيها الشمس أكثر، حيث يمكن بوضوح رؤية تدرجات وتناغمات الألوان الزاهية والمشرقة والجميلة.
تماماً كما فعل الفنانون الأوروبيون العظماء عندما سافروا إلى شمال أفريقيا، وهناك بدا لهم كل شيء نقياً ومشرقاً وجديداً، لأنهم لم يتعودوا على هذه الألوان الزاهية التي فاجأهم الصيف بها، ولم يختبروا مثل هذه الأجواء، وهذا ما أدى إلى تغيّر طريقتهم في الرسم تماماً. هناك في شمال أفريقيا، فُتحت دفاتر الرسم، وسُجِّلت المشاهد العابرة بأقلام الرصاص، لتصبح هذه الدراسات السريعة لاحقاً لوحاتٍ فنيةً مهمة، غنية بالضوء والتفاصيل والتكوينات الجديدة.
وقد أضاف بعض الفنانين إلى رسوماتهم تلك بعض الألوان المائية، وهكذا صارت تلك الدراسات بمثابة أعمالٍ فنيةٍ مكتملة، وشكّلت مرحلة مهمة من تاريخ الفن. ورغم تفاوت مدة إقامة هؤلاء الفنانين في الشمال الأفريقي، إلا أنهم جمعوا رسوماتهم في النهاية، وعادوا إلى بلدانهم لتحويلها إلى لوحاتٍ زيتية، كما فعل الفنان أوغست ماكي الذي كتب إلى زوجته إليزابيث سنة 1914:
(أحمل معي إلى الوطن كمية هائلة من الرسومات السريعة، والتي يمكنني بعد ذلك العمل عليها في بون، وإضافة الكثير من التفاصيل لها).
وهناك ماتيس، الذي زار المغرب قبل سنة من ذلك (1912–1913)، حيث تأثر بأشعة الشمس الساطعة، وقد رسم هناك العديد من اللوحات بألوان جميلة، حيث تأثر بالنوافذ المطلة على البحر، وأشجار النخيل، والمقاهي المغربية التقليدية، والأزقة الضيقة، والناس بأزيائهم المحلية المزيّنة بالزخارف. وقد رسم كل ذلك بألوان مشرقة وبلمسات سريعة، وأكّد من خلالها بأنه أحد أهم مُلوّني تاريخ الرسم.
قبلَ ذلك بكثير، كان أوجين ديلاكروا قد سبق الجميع، عندما سافر إلى الجزائر سنة 1832، ورسم هناك لوحاته الخالدة، التي أدخل فيها نساء فاتنات، جالسات أو مستلقيات باسترخاء مذهل، كما يتضح ذلك في لوحته الشهيرة (نساء الجزائر)، حيث نرى كيف تمتلئ الغرفة بالزخارف والموتيفات والتصاميم الشرقية الرائعة، حيث تأخذ المرآة بإطارها المزخرف مكانها على الجدار، فيما يلمع البلاط الملوّن على الأرضية والجدران.
وقد ازداد المشهد غموضاً وتساؤلات من خلال الستارة نصف المسدلة، ووسط كل ذلك ينعكس الضوء فوق وجود النساء الناعسات. مناخ دافئ، وألوان مشرقة، ونساء مليئات بالغواية، وفوق كل هذا: تقنية مذهلة وأسلوب مدهش لرسم سحر الشرق.
وقد كتب ديلاكروا في مذكراته بعد أن رأى حتى الظلال لها ألوان مختلفة ومتعددة:
(ظلّ الأشياء البيض هنا له انعكاس أزرق قوي، وتبدو كل التفاصيل والأشياء بألوان مختلفة عما عرفته، حيث السروج بأحمر قانٍ، والعمامات التي يضعها الناس على رؤوسهم بدت لي بلون أسود عميق جداً).
هكذا انفتحت أعين العديد من فناني أوروبا على الشرق، بمنمنماته، وألوان ملابسه، وحليّ نسائه، وإيماءاتهم الجذابة، وكذلك زخارف المنازل المتنوعة، حتى أشكال الأحذية، وأغطية الرأس، والأسلحة. كل شيء كان يصلح للرسم، وكل جزء كان ينادي الرسامين للتوقف أمامه وإدخاله في لوحاتهم.
في شمال أفريقيا، منحت هذه التفاصيل إلهاماً جديداً للفنانين لم تعتد عليه أعينهم من قبل.
هكذا يكتمل الجمال وتشرق روح الفن.
ومثلما ينبعث الضوء دافئاً، تنبعث معه طاقات الفنانين الذين خطوا بخطواتهم نحو كل جديد ومُلهم ومؤثر.
وكما تكتمل دورة الحياة عند شروق الشمس ثم غروبها.
هكذا يكتمل جمال الفن عندما يجتمع الشرق والغرب على قماشة لوحة واحدة.