على الملأ

هل سقطت الصحافة من عيون قرّائها؟!

 عبد الكريم البليخ

في ضوء الفوضى الإعلامية التي تحاصرنا من كل اتجاه، يتردّد سؤالٌ مؤلم في الصميم مفاده: هل فقدت الصحافة دورها؟

سؤال لا يُطرح على استحياء، بل يصرخ في الفراغ. فالصحافة، تلك الكلمة التي كانت ذات يومٍ مرادفاً للحقيقة، تبدو اليوم كأنها ظلٌ باهت لما كانت عليه. لا هي تحرّك، ولا تُحرِّض، ولا تستفّز، ولا تُلامس الجمر الكامن تحت رماد المجتمعات. بل تميل أكثر فأكثر إلى ممارسة الاستعراض، إلى بيع القصص الخفيفة، والمحتويات اللامعة التي لا تخدش سطح الحقيقة.

ولكن، من المسؤول عن هذا التحول المرير؟

أهي المؤسسات الصحفية التي ركضت خلف “اللايك”، و”الترند”، أم الجمهور الذي تراجع عن دوره كمراقب وشريك وناقد؟

ليست الصحافة سوى مرآة، ولكن هذه المرآة لا تعكس من تلقاء نفسها. هي تلتقط ما يُعرض أمامها. فحين يقف القارئ متفرجاً على ما يُقدَّم إليه دون احتجاج، دون ملاحظة، دون مساءلة، يصبح صمته نوعاً من الرضا الموارب. وللصمت هنا فعل أقوى من الكلمات؛ إنه يسمح للرداءة بالتمدّد، وللتزييف أن يتلبّس ثوب الواقعية، ولصحافة التطبيل أن تزدهر تحت وهم القبول.

هل تساءل القارئ يوماً عمّا تقدّمه الصحف من أخبار طريفة، و”طرائف حول العالم”، وصور نادرة لقطط ترتدي قبعات؟ هل توقف عند تلك الصفحات التي تقدّم عالم الجريمة في قالب من التشويق المملوء بالإثارة الفارغة، أو الصفحات التي تتغنى بأجساد النجوم وفساتين السجادة الحمراء، وصفحات أخرى مهووسة بأحدث إصدارات الهواتف الذكية أو سيارات المليارديرات؟

لقد تحوّلت بعض المطبوعات إلى سيرك متنقّل، أو مول رقمي يعرض بضاعة ترفيهية لا تعكس وجع الواقع، ولا تعنيه.

ما يحدث في الصحافة ليس مجرد تراجع في المحتوى، بل فقدان عميق للعلاقة الحميمة بين القارئ والمطبوع. لم تعد الصحيفة نافذة مفتوحة على العالم، بل أصبحت واجهة زجاجية باردة تملأها الإعلانات، والقصص المعادة، والعناوين المثيرة المصمّمة لجذب الأنظار لا للغوص في المعنى.

والمفارقة أن هذه العلاقة المبتورة كانت ـ وما تزال ـ سبباً في استمرار هذا التدهور. حين لا يحتجّ القارئ، لا يكتب، لا يطالب، لا يعترض، فإن صوت “الرفض” يُمحى من المشهد، وتُترك الصحافة فريسة للسطحية، أو أسيرة للسلطة والمال.

في عالمٍ تعصف به التحولات، وتكثر فيه مناطق النزاع، وتشتد الأزمات المعيشية والفكرية والبيئية، تتحول الصحافة إلى مشاهد ترفيهية “خفيفة الدم”، بدل أن تكون أداة تفكيك وتنوير ونقد. فما الذي يجعل المطبوعات تكتفي بتقارير الطقس، وأرقام الأبراج، وأكلات الرجيم، فيما العالم يحترق؟ الجواب لا يُختزل في إدارة التحرير فقط، بل يتورّط فيه جمهور متقاعس عن دوره التاريخي.

متى يتحرر القارئ من وهمه بأنه مجرد “مستهلك” للكلمة؟ الصحافة الجادة لا تنشأ من فراغ. هي ابنة مجتمع حيّ، وثقافة متفاعلة، وجمهور يقظ. القارئ المثقف ليس من يحكم على المقال بينه وبين نفسه ثم يطوي الصفحة، بل من يمارس فعلاً حقيقياً في مساءلة المحتوى، ويقترح، ويكتب، ويقود التحوّل في اتجاه الكلمة.

ففي زمن فقدت فيه الصحافة استقلالها، لا تملك سوى القارئ الواعي درعاً يحميها من التآكل.

هل يدرك القارئ أن بوسعه استرجاع قلم كاتب أُقصي عن منبره لأن صوته كان مزعجاً لمراكز النفوذ؟

هل يعي أنه قادر على فرض أجندة النقاش العام حين يُلحّ، ويتّصل، ويكتب، ويتحرّك؟

الوعي هو قوة لا تُقدّر. إنه الشرارة التي تحرّك الجمود، وتكسر الحلقة المفرغة بين ما يُكتب وما يُهمل. وبدون هذا الوعي، تظل الصحافة تمشي في دوائر، تُعيد نفسها، وتنتج المكرر والمُمِل.

منذ متى تحوّلت الصحافة إلى مرآة صامتة للواقع، لا تحركه؟

منذ متى بدأت تركن إلى السكينة، وتهاب المعارك؟

الصحافة في تعريفها الأصيل صوتٌ متمرّد. هي من تقف في وجه المدفع، لا من تختبئ وراءه. هي من تقول حين يصمت الآخرون. هي من تُزعج السلطات، لا من تصفّق لها. هي من تُقيم الجدل، لا من تنشغل بتلميع الوجوه.

لكن حين يغيب القارئ، وتغيب المحاسبة، يتحول القلم إلى آلة صامتة. وتصبح الكلمة بلا معنى.

وتتحول الصحف إلى نشرات إدارية لا تنبض، لا تتفاعل، لا تنفعل.

الصحافة ليست كياناً مستقلاً عن مجتمعها. بل هي تفاعُل حيّ بين من يكتب ومن يقرأ. فإذا انقطعت هذه الدائرة، ماتت الصحافة، وتحللت الأفكار على الورق، وتحولت الصفحات إلى بقايا رماد.

في غياب القارئ الناقد، تتحول الصحافة إلى صوت يتكلم في الفراغ، أو إلى كائن يتيه في برجه العاجي لا يعرف لمن يكتب، أو كيف يُصيب المعنى. وربما الأخطر، أنها تبدأ بمخاطبة “شبح مثقف” غير موجود، وتنسى الإنسان الحقيقي بلحمه وهمّه وأسئلته اليومية.

الصحافة بحاجة إلى جمهور يشبه نبضها الحيّ، لا موظفين يقرؤون من باب الروتين. فحين تخسر الصحافة جمهورها الحقيقي، تتحول إلى لغة غريبة، تحتاج إلى “شريط ترجمة” لتُفهم. وما أسوأ لغة لا تجد من يفسّرها، أو يحتفي بها، أو يُعارضها حتى.

الصحافة الحقيقية ليست أرقام توزيع، ولا عدد متابعين، بل صلة إنسانية حقيقية. هي القلم الذي لا يكتب إلا حين يشعر بالعين تراقب، والعقل يناقش، والصوت يعقّب. فهل ما زال بيننا من يؤمن بأن دوره كقارئ لا يقتصر على التلقي؟

هل ما زالت لدينا الشجاعة لنطلب من الصحافة أن تكون مرآتنا لا مرآة السلطات؟

الصحافة اليوم تقف على مفترق: إما أن تُستعاد بوصفها شريكاً في الوعي، أو تُترك لتذوي في عزلة القرّاء. وفي الحالتين، الخيار ليس بيد المطبوعات وحدها. بل بيد الذين يقرؤون، أو يتوقفون عن ذلك.

8/8/2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى