حوار مع الطبيعة

ستار كاووش
لا تبعد غابة باكفين عن البيت والمرسم سوى عشرين دقيقة بالسيارة، لذا أذهب بين فترة وأخرى للتجول هناك، وخاصة في فصلي الخريف والربيع، حيث تُبدل الطبيعة ثيابها ويكون الضوء معتدلاً والهواء صافياً ومنعشاً. إنها غابة صغيرة أو محمية للطبيعة البكر، لذا أراها مكاناً مثالياً ومنعشاً لتصفية الذهن والروح. هذا الأسبوع توجهتُ الى هناك كالعادة، وهذه المرة قررتُ أن أقضي هناك كل الظهيرة، ألتقط صوراً لتفاصيل المكان والطبيعة الساحرة، حيث الأشجار تتداخل وتلتمع أوراقها مثل قطع نقود ذهبية تحت الشمس. وفوق كل هذا سأوظفُ ما سوف أراه في رسم بعض اللوحات عند عودتي للمرسم.
حملتُ حقيبتي التي وضعتُ فيها تُرمُس القهوة وبعض الكعك، وانطلقتُ الى هناك، وعند المدخل ظهرت يافطة كبيرة ومليئة بتفاصيل ومعلومات حول المكان، حيث كُتِبَتْ بعض الإرشادات التي تساعد الزائر في قضاء الوقت الذي يُناسبه بطريقة سهلة وممتعة ودون الإخلال بضوابط المكان. وسط اليافطة ظهرت الإشارة الى أربع جولات ممكنة، حيث تستطيع اختيار ما يلائمك، وكانت أكبر هذه الجولات تمتد لثمانية كيلومترات، وأصغرها لا تتعدى كيلومتراً ونصف، ويمكنك تتبع مسارات كل جولة حسب اللون، حيث ثُبِّتَتْ الأوتاد التي توزعتْ عليها أربعة ألوان بمحاذاة الطرقات التي يمكن سلكها. اخترتُ الجولة ذات اللون الأخضر والتي تمتد لثمانية كيلومترات، وانغمرتُ وسط الطبيعة، وكانت الجادات تتقاطع أحياناً مع بعضها، لكن اللون المناسب هو الذي يقودني الى وجهتي الصحيحة. غطى الهدوء كل المكان، وما ساعد في ذلك هو أن الناس قليلاً ما يخرجون من بيوتهم وقت الظهيرة. وهكذا مضيتُ في خطواتي وسط اللون الأخضر وبقع الضوء التي تخللتْ الأشجار وجعلت الطريق مبقعاً، وتوقفتُ لالتقاط صور لبعض أوراق الأشجار والنباتات الصغيرة التي حوَّلتْ المشهد الى لوحة انطباعية مذهلة.
التجول وسط اللون الأخضر هنا يمنحني دائماً فرصة نادرة لفهم الكثير من أسرار الطبيعة والحوار معها، إنها الطبيعة الأم التي تجمع الجمال والخصوبة في بوتقة واحدة. يا لها من مصدر عظيم وملهم للفن والجمال وحتى فهم الحياة وغريزة الوجود. هنا وسط هذه الغابة الصغيرة أتَعَلَّمُ كرسام معنى التناغمات اللونية والفروقات بين الأشكال، حيث تتراقص تدرجات اللون الأخضر، وتنبثق أغصان صغيرة هنا وجذوع ضخمة هناك. وفيما تفترش الظلال الزرق المكان، تَمِدُّ غيمة قرمزية صغيرة رأسها من خلف الأشجار، لتأخذ مكانها وسط السماء الصافية، وتجعل تكوين المشهد الذي أمامي أكثر اكتمالاً. سحبتُ خطواتي بجانب بعض الأشجار الضخمة، وقد افترشَ رجل وامرأة المكان لتناول بعض الطعام بهدوء، حييتهما من بعيد وأكملتُ طريقي تحفني رائحة العشب والنباتات البرية. ولم تمض ساعة من المشي، حتى لمحتُ واحدة من الأرائك الخشبية التي وزعتها بلدية المدينة في انعطافات متفرقة من المكان، وبلونها الأزرق تماهتْ الأريكة مع لون الطبيعة، لكنها بدتْ وحيدة يحيطها السكون، فاخترتُ أن أجلس هناك، حيث أخرجتُ من حقيبتي علبة الكعك والقهوة التي انبعثت رائحتها ومنحتْ المكان الكثير من الألفة. بعد هذه الاستراحة القصيرة أكملتُ طريقي مروراً بأشجار مرتفعة تتماهى مع الأفق وتعيدني الى لوحات الرسام الهولندي يان مانكس، أو التوقف على حافة الطريق لتأمل كدساً من جذوع الأشجار المقطوعة التي تُذَكِّرُني بلوحات الرسام الروسي إيفان شيشكين. أمضي بخطواتي وسط الطبيعة التي تتناسل وتتكاثر وكأنها لا تريد الانتهاء، حتى انفرجَ المكان على مساحة مفتوحة مليئة بنباتات الخلنج التي اتكأت على بعضها مثل كرات متشابكة وأحاطت بالطريق بلونها الشاحب، وكأنها تنتظر عربة الصيف لتكتسي بلونها البنفسجي المذهل.
تبقى الطبيعة مليئة بالأسرار والاكتشافات والجمال الذي لا يوجد في المدن المكتظة بالناس والسيارات ودخان المصانع. وهي ربما الشيء الوحيد الذي يمنحنا الطمأنينة مثل أم رؤوم. قبل انتهاء الجولة بقليل لمحتُ غصناً كبيراً سقط قرب إحدى الأشجار، فأمسكته وجعلته عصا للمشي وتثبيت الخطوات، ربما تيمناً بالرسام كوربيه الذي كان يجوب الريف الفرنسي بعصاه التي يضرب بها الأرض واثقاً بخطواته كثقته العظيمة بلوحاته.
انتهت جولتي اليوم، وها أنا أقطع ثمانية كيلومترات وسط هذا المكان الجميل، وأخرجُ من جديد مع حقيبتي الصغيرة التي فَرِغَتْ من القهوة والكعك، لكنها امتلأت باللون الأخضر. يا لهذا اللون الذي حرَّك الكثير من الرسامين وجعل الانطباعية خالدة، هذا الأخضر الذي سآخذه معي الى المرسم، حيث تنتظرني هناك الكثير من اللوحات.