موسى رحوم عباس
ربيع جابر روائي وكاتب وصحافي لبناني، بيروت 1972 خريج الجامعة الأمريكية في بيروت، قسم الفيزياء، لكنه توجه للكتابة والصحافة، وكان من كتاب جريدة الحياة الصادرة في لندن، حازت روايته “دروز بلغراد” جائزة البوكر العربية 2012 ، كما ترجمت بعض أعماله للفرنسية والألمانية، ومنها: دروز بلغراد، الاعترافات، رحلة الغرناطي … يقول عن نفسه إنه ولد على خط التماس بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية في الحرب الأهلية اللبنانية، واختار في البداية اسماً مستعاراً هو نور خاطر، لكنه عاد لاسمه الحقيقي وحسناً فعل، جذبني إليه ابتعاده عن الأضواء والاستعراض، كما شدّني إليه براعته في السرد، وكأنك تستمع إلى صديق مقرَّب يحكي لك حكاية مشوقة من حكاياته، بعيداً عن التصنّع والتعالي اللذين سئمنا وجودهما في نرجسية شخصيات بعض الأدباء، حتى صرنا نغير الطريق إذا ما تقابلنا معهم في مكان؛ لنوفر على أنفسنا التعب النفسي في احتمال هذه الأنَوات المتورمة، ربيع جابر كما قال عنه المؤرخ اللبناني كمال الصليبي في محاضرة ألقاها في جامعة هارفارد، قال: “ربيع جابر حكواتي بالفطرة”، وهذا يذكرني بالرَّاحل الأديب السوري الكبير الدكتور عبد السلام العجيلي وقدرته على السرد السهل الممتنع، وإشاعة المتعة والتشويق في ثنايا الحكاية.
“دروز بلغراد” رواية تقوم على الصُّدفة، الحظ العاثر، عبث الأقدار، قل ما شئت، حنا يعقوب الشاب المسيحي ابن الوقَّاد في الحمام العمومي والذي يعمل في بيع البيض المسلوق للعمال والفقراء في بيروت، ويسكن في بيت متواضع قبالة الكنيسة، يحاول بعد وفاة والده مختنقاً في بيت النار تحت الحمام العمومي، وهو العمل الذي يقوم به لإبقاء الماء ساخناً لمرتادي الحمام، يحاول أن يعيل زوجته هيلانة وابنته الصغيرة بربارة، يقوده حظه العاثر إلى الميناء صبيحة ذلك اليوم المشؤوم، إبان الحرب الأهلية في جبل لبنان منتصف القرن التاسع عشر، وصدور الفرمان العثماني بنفي (550) شاباً من دروز الجبل خارج لبنان، عقوبة لهم لاعتدائهم على المسيحيين من جيرانهم وقتلهم لعدد كبير منهم، وحتى تكتمل دائرة حظ حنا يعقوب السيئة، يضطر الشيخ الدرزي عبد الغفار عز الدين لشفاعة الوالي العثماني مع الهدايا والرِّشى المعتادة في منظومة الفساد التركية، ويطالبه بالعفو عن أبنائه الخمسة المشمولين بالنفي، لكنه لا يحصل على سوى واحد منهم، وحسب، تكرماً من الوالي؛ فاختار أحدهم على مضض، وهو ابنه سليمان، وكان زائر الصُّدفة حنا يعقوب المسيحي هو البديل، رأساً برأسٍ! فيتم اقتياده للسفينة عنوة، ويرحل مع الدروز، حتى لا يظهر النقص في العدد، ويدفع ثمن جريمة لم يرتكبها، وتقوده رحلة العذاب تلك إلى سجون السلطنة العثمانية، من قلعة بلغراد، إلى البوسنة، إلى بلغاريا صوفيا، مقيداً بالسلاسل والأمراض والكوليرا والجوع، ومع جهله باللغات المتعددة هناك تتضاعف غربته، ويزداد ألمه، وحتى بعد أن يخلي سبيلهم، يعاقب في طريق الحرية تلك بالسجن خمس سنوات لسرقة بيضة، ويقاسي الأهوال لأجل بيضة! تتساوى لديه الحياة والموت، بل تصبح الحياة أشد شقاء من الموت عينه!
في السجن يصبح الناس أشد هشاشة، وتضمحل الأحقاد، وتنضج نار الاعتقال والتعذيب نفوسهم؛ فتصفو مرتفعة عن التعصب للطائفة وأحقاد الثأر؛ فيصبح حنا المسيحي هو سليمان عبد الغفار عز الدين، ويحظى بمعاملة الأخ من قبل أبناء عز الدين، يا لهشاشة الحياة! وبالتوازي مع حكاية المعتقلين المنفيين يسير خط الحكاية الآخر في بيروت ومعاناة الزوجة هيلانة واضطرارها للخدمة في بيوت الإقطاعيين وعلية القوم؛ فتعيل ابنتها التي كبرت، وصارت تشبه أمها.
واستعمل الروائي جابر تكنيكاً بسيطاً بعيداً عن التعقيد الذي يتعمده البعض؛ ليشعرنا بأهميته، إذ أمسك بخطي الحكاية وبصورة متوازية ومتزامنة، المنفيون في بلغراد وبلاد البلقان، والزوجة هيلانة والابنة بربارة في بيروت وبطريقة الراوي العليم للحكايتين معا، وأحيانا يتحول البطل إلى راوٍ بضمير ” الأنا”
حنا يعقوب يموت ثم يشارك في محمل الحج المقدوني؛ ويصل إلى دمشق فبيروت!
كنتُ قد ذكرت في أحاديث كثيرة مع زملاء الكلمة حول أهمية وجود مُحرِّر أدبي معتمد لدى كل دار نشر، وهو تقليد أدبي راسخ في صناعة النشر في الغرب، لكنه مهمل غالبا في دور النشر العربية حتى المشهورة منها، ما ذكرني بهذا، هو ما ذكره الروائي جابر في متن روايته الفائزة بجائزة البوكر 2012 بأن بطل العمل حنا يعقوب قد قتل في عملية إعادة بناء جسر في بريشتينا من قبل ثوار على السلطنة أو قطاع طرق ، ليس واضحا، وشوهد ميتا في حفرته، إلى جانب ” إخوته الدروز” ووجد يغطيه الرمل، ثم نفاجأ بأنه يتابع رحلته بعد عدة صفحات، ويشارك في محمل الحج المقدوني بدلالة صبي راع للغنم، ويعلمهم بأن اسمه سليمان؛ فيجد منهم الرعاية والاهتمام وتنقلب حياته تماماً، وشارك في محمل الحج الذي يتوسع مع خروجه من استانبول إلى حلب وصولاً إلى دمشق؛ ليأكل الحلويات الشامية، ويأخذ أجرة الطريق من رجل حمصي يعمل في دمشق، ويصل إلى بيته في بيروت مقابل الكنيسة، بعد رحلة عذاب استمرت 12 سنة من الحياة التي تشبه الموت! ولو عرضت هذه الرواية الرائعة على محرر محترف لما وقعت في هذه السقطة! فالمحرر (هو غير المدقق اللغوي) يقدم المشورة للكاتب، ويقوِّم خط السرد، ويدقق العادات والأطعمة … الخ ويضع خبرته في خدمة المنتج الإبداعي في صورته النهائية.
دروز بلغراد رواية لا تستطيع وأنت تقرؤها إلا أن تكون واحداً من شهودها، تبكي مرَّة، وتضحك أخرى، متجاوزاً تلك السقطة، وتخرج منها وأنت أكثر إنسانية ومحبّة للناس بكل نقائصهم ونقائضهم.
ستوكهولم
6/ 2025
……………
دروز بلغراد، رواية، جابر، ربيع، المركز الثقافي العربي، دار الآداب، بيروت، 2010 الدكتور موسى رحوم عباس، أديب سوري، عضو اتحاد كتاب السويد
(SFF)
غلاف رواية “دروز بلغراد”