رضوى الأسود: أكتب بروح صوفية متسامحة

كثرة عدد الكتاب وتردي أحوالهم المادية خلقا سباقاً ضارياً على الجوائز
محمد شعير

لا جدوى من الكتابة بمعزل عن قضايا الإنسان وأسئلته بجرأة، وإلا تحول الكاتب إلى مجرد عارض تحف قديمة ينظف كلماته وتعابيره ويعرضها وقد تحقق له مردوداً من الإعجاب أو شيئاً من الرواج فيكتفي بذلك، بينما الكتّاب الحقيقيون يراهنون على ما هو أعمق بكثير، من هؤلاء الكاتبة المصرية رضوى الأسود.
الجرأة سمة رئيسية ينبغي أن يتسلح بها الكاتب عند عرض أفكاره. بدونها يصبح مثل عامل توصيل الأفكار إلى المنازل، الذي يقدم للقراء ما يطلبونه حسب رغباتهم الخاصة. لكن الجرأة ينبغي أن تقترن أيضا بشيء آخر، هو الجدية، عبر تقديم فكرة متماسكة لها منطقها، بعد بذل الجهد والقلق والأرق في بنائها، أيا يكن رأي القارئ بعد ذلك بشأنها، وليس بهدف إحداث صدمة للمجتمع لتحقيق الشهرة فحسب.
رضوى الأسود، أديبة وباحثة مصرية جادة وجريئة. قدَّمت على مدى 15 عاماً عدداً من الأعمال الروائية المهمة، وكتبت في فن السيرة الروائية والبحث الفكري والمقالات النقدية، وكان طريقها مع الكتابة وإليها له قصة تستحق أن تروى.
وقود الانطلاق
سيظل المرء – دائماً أبداً – عاجزاً عن إدراك ماهيته سيظل المرء – دائماً أبداً – عاجزاً عن إدراك ماهيته.
تؤكد الأسود في حديثها أنها تؤمن بأن القدر يلعب دوراً عظيماً في حياتنا، والكتابة هي من تختارنا، وليس نحن من نختارها؛ فقد قاومتْ الكتابة سنوات طويلة، ابتعدتْ خلالها عن الوسط الأدبي والثقافي على الرغم من معرفتها العميقة به وتغلغلها فيه منذ طفولتها بسبب أبيها الناقد والسيناريست فاضل الأسود.
فضَّلتْ رضوى النجاح العملي والراتب المجزي والروتين اليومي، ودون مقدمات وجدت نفسها وكأن شيئا قوياً جداً، قدرياً، يدفعها إلى الكتابة، يُجلسها فوق السرير – حسب جلستها المفضلة أثناء الكتابة – حاملة اللاب توب، ويدها تنقر مفاتيح الكيبورد.

كتبتْ الأديبة المصرية روايتها الأولى “حفل المئوية”، والثانية “تشابك”، في زمن وجيز، والروايتان كتبتا بسلاسة ويسر كأن أحداً ما أملاهما عليها. واكتشفت أن قراءاتها المكثفة في طفولتها ومراهقتها وشبابها، ومحاولاتها البسيطة الخجولة في الكتابة، وقود الانطلاق الذي حدث عام 2010 مع ظهور روايتها الأولى، وهو ما تُعلق عليه بأن “كل شيء تم تخزينه في الذاكرة والوعي واللاوعي لينفجر في لحظة مُقَدَّرَة”.
تقول الأسود إنها تكتب أولاً لمتعتها الشخصية، ورغبةً في التحرر من كل القيود المفروضة، وبالمثل تكتب لمتعة القارئ، لكن هناك جانباً تنويرياً تهتم بإيصاله، يظهر في الشق المعرفي في رواياتها. وهي تؤمن بأن لكل إنسان هدفا خُلِقَ لأجله في الحياة، وهدفها كتابة أفكار محدَّدة وشائكة ناقشتها في رواياتها أو كتبها البحثية.
صدرت للكاتبة المصرية أعمال عدة، منها روايات “خداع واحد ممكن”، و”يونيفرس”، و”بالأمس كنت ميتا.. حكاية عن الأرمن والكرد”، وكتاباً “أديان وطوائف مجهولة.. جوهر غائب ومفاهيم مغلوطة”، و”سيد قطب.. رحلة بين ضفاف أسطورة التناقضات”.

تعتبر رضوى الأسود الكتابة صوت من لا صوت لهم، وأن الكتابة الحقيقية، المختلفة، الجريئة، الكاشفة، المستبصرة، المفتوحة على العديد من التأويلات، التي تتحدث عن المسكوت عنه، هي ما تبقى وتستمر. وتلك كانت ولا تزال اختياراتها في الكتابة، التي تراهن أن الوقت وحده هو من سينصفها ويضعها في مكانها الصحيح، حين يُتم التاريخ عملية فرزه.
وتضيف “الحب له دور محوري في كل كتاباتي، أكتب بروح صوفية، متسامحة، تتقبل الآخر مهما كان مختلفا، وأؤكد دوماً على فكرة التنوع والاختلاف لأنهما سُنة الحياة وسر ثرائها”.
انطلق طريق رضوى في الكتابة عن الأديان والطوائف، فضلاً عن الأعراق، مثل الكرد والأرمن، من كونها بدأت حياتها تلميذة مسلمة في مدرسة للراهبات، ولم يكن التلاميذ يفترقون إلا في حصة الدين؛ الأمر الذي تراه طبيعياً، لأن للمسلمات منهجا يختلف بالضرورة عن المنهج الدراسي للمسيحيات، وذلك أول الأسباب التي جعلتها تنتبه إلى أن قناعات البشر وأفكارهم وممارساتهم في مسألة الدين والإله ليست واحدة.
قرأت الكاتبة في مرحة المراهقة ما وجدته في مكتبة أبيها من كتب تتناول الأديان المختلفة ومقارناتها، وكتاب العهد القديم والجديد. وفي كتابها “أديان وطوائف مجهولة” ذكرتْ أن الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، والدين محض إرث أبوي، وليس لأحد فضل فيه، ولسنا وحدنا على هذه الأرض، بل هناك الآلاف من الأديان والملايين من الأشخاص الذين ينتمون إليها، وكل معتنِقٍ لدين يرى أنه على الطريق الصحيح، وأن الباقين على خطأ، إلا أن المصدر واحد، والمعبود واحد وإن اختلف مسمَّاه، واحترام معتقد الآخر هو الضمانة الوحيدة للسلام العالمي.
تعترف الأسود بأنها تعشق الاختلاف والتباين الذي خلق الإله البشر عليه، قائلة “أهوى تاريخ الشعوب، وعلم الأنثروبولوجيا، وبطول عمري، في أي مكان مزدحم بالبشر، أظل في حالة تأمل للوجوه؛ الأنف، العين، لون البشرة، والشعر، وأحاول تخمين الأصول التي انحدروا منها أو ينتمون إليها، كما أتأمل نبرة الصوت وطريقة الكلام والملبس.. إنه ولع، وذلك يختلف بالطبع عن علم الفراسة”.
شعوب تهوى القشور
صدر للكاتبة المصرية كتاب “حليم.. بين الماء وبين النار”، في صورة سيرة روائية تناولت فيها حياة الفنان عبدالحليم حافظ. وكان قد أثار جدلا في الفترة الماضية حول حقيقة زواجه من الفنانة سعاد حسني.
تعتبر الأسود أن الجدل سيظل قائماً، لأننا شعوب تهوى القشور وسفاسف الأمور، تهتم بظاهر الأشياء، وليس جوهرها، تقول “ما الضير أو المنفعة في كونهما تزوجا أم لم يتزوجا؟”، إلا أننا نريد معرفة الأمر، نبحث عنه حثيثاً، المثقف قبل الجاهل، كي نحاسِب الفنان أخلاقيا، كما يُحاسَب الكاتب على ما ورد في نصه بميزان أخلاقي وليس أدبياً أو نقدياً.
وترى أن الناس تهوى نصب المشانق، وممارسة دور الجلاد، تستعذب الطعن في شرف وسيرة النجوم تحديداً، لذا تجد من يلمح بخبث إلى أنها كانت تقيم في منزله دون زواج. وتصف ذلك بأنه نوع من ادعاء الشرف على حساب الآخرين، كأنما يريد الإنسان أن يقول: انظروا، أنا أشرف من فلان، لقد فعل كذا، بينما أنا لم أفعل. “نحن شعوب تتغنى بالحب ليلاً ونهاراً دون أن تفهم حقيقته”، كما تقول، وكتبتْ في إهداء روايتها “أوجه عديدة للموت” الصادرة حديثاً “إلى الحب.. ما سيظل المرء – دائماً أبداً – عاجزاً عن إدراك ماهيته”.
وتكشف رضوى الأسود أن الحقيقة الوحيدة في قصة حليم وسعاد، هي أنهما عاشا قصة حب ملتهبة لحوالي خمس سنوات، تبدَّت فيها اللوعة، والغيرة الشديدة، والسُهد، والعذاب. وانتظرت سعاد من حليم إعلان ذلك الحب أمام العالم، ونقله من السر إلى العلن، لكن حب حليم لفنه كان أقوى، إذ لم يتزوج حليم سوى الفن، وكان شخصية شديدة الذكاء والبراغماتية.
وتضيف أن سعاد قد تعلمت درس عمرها من تلك التجربة التي أخذت من روحها الكثير، وقررت أن تكون هي الأخرى شخصية عملية، ناجحة، ليس مجرد نجاح لا بأس به، بل نجاحا ساحقا. وفي النهاية، وكما يحدث دائما، يُخَلِّف الحب الكبير مرارة كبيرة وجرحا عظيما. وهذا ما حدث مع الاثنين، وتحديداً سعاد.

وتبرر رضوى الجدل الدائم حول مفهوم “الأدب النسائي” بسببين رئيسيين؛ أولهما الخلط بين المصطلحات؛ فـ”الكتابة النِسويَّة”، والتي يُطلَق على كاتبها “فيمينيست”، هي الكتابة التي تتناول قضايا المرأة، سواء كان كاتبها رجلاً أم امرأة، وهي تختلف عن مُصطلح “كتابة المرأة” أو “أدب المرأة”، الذي يشير إلى كل ما تكتبه المرأة، بغض النظر عن نوعية موضوعاتها.
ويرجع السبب الثاني، في رأيها، إلى أن الرجال من الكُتَّاب والنقاد يرون أن هذا الأدب أو ذاك نوع تافه وعديم القيمة، وأنه يملك رؤية أُحادية وقاصرة، ويلعب في أفق ضيق يعتمد على اللطميات والمراثي، وإظهار المرأة مظلومة دائما، والرجل ظالماً دائماً.
وتميل الأسود إلى الواقعية في الكتابة الروائية، كما تقول، وإن كانت روايتها الأخيرة “أوجه عديدة للموت” تنطلق مما يُسمى “السرد المستحيل”، أي غير الواقعي، إذ يستحيل أن يكون حقيقياً بحساب العقل، لأنه صادر عن شبه جثة. ولم تجرب حتى الآن الكتابة الغرائبية، وإن كانت تحب قراءة ذلك النوع من الروايات، دون الميل للغرائبية المفرطة.
وتوضح أن الواقع في حقيقته صورة غير مفهومة، نفككها ونعيد ترتيبها بالإبداع النابع من ذواتنا، كما أن الواقع يُمثل بحد ذاته في أحيان كثيرة خيالاً جموحاً من فرط جنونه وكثرة ما يستعرضه من عبث يصل حد اللا معقول وغير المُصَدَّق.
وبنفس الجرأة في طرح الأفكار، تعتبر رضوى الأسود أن لجان التحكيم في الجوائز الأدبية منحازة للرواية التاريخية، بشكل كبير جداً.
وتصف الجوائز الأدبية بأنها تقدير أدبي ومادي للكاتب ومنجزه، إنها كلمة “أحسنت” مصحوبة بهدية تكون أحياناً قيمة جداً. ونظراً إلى كثرة عدد الكتاب، وتردي أحوالهم المادية في بلدان تبخس الكاتب حقه، ويعيش فيها المثقف حياة الكفاف، فإن هناك سباقاً ضارياً على الجوائز، لأنها تلقي الضوء على العمل الفائز، فتزيد من مبيعاته، وتعمل على شهرة الكاتب، كما تلقي الضوء على بقية أعماله.