ريدي فيوتشر: استثمار في الإنسان من أجل مستقبل قطر

مركز يفتح آفاق المستقبل وبرامج نوعية تواكب العصر
عبد الكريم البليخ

تزدهر الأمم حين تجعل من الإنسان جوهر مشروعها، وحين تنظر إلى الفرد لا باعتباره رقماً في معادلة اقتصادية، بل محوراً أساسياً في منظومة التنمية. وفي هذا الإطار، تتجلى التجربة القطرية بوصفها نموذجاً حيّاً لاستثمار واعٍ في الإنسان، حيث لا يُنظر إلى الإعاقة كعائق، بل كمساحة جديدة يمكن تحويلها إلى طاقة فاعلة. إن دمج وتمكين ذوي الإعاقة لم يعد مجرد واجب إنساني، بل بات ركيزة أساسية في رؤية قطر الوطنية 2030 التي وضعت الإنسان، كل إنسان، في صميم أولوياتها.
ومن هنا يبرز مركز ريدي فيوتشر الذي تشرف عليه الدكتورة ميرفت إبراهيم، باعتباره جسراً بين الحلم والواقع، بين الطموح الفردي والرؤية الوطنية. المركز لم يأتِ كمؤسسة تقليدية في التدريب والاستشارات، بل كفلسفة متكاملة تسعى إلى صناعة المستقبل من خلال بناء القدرات، وفتح أبواب جديدة أمام الفئات المهمشة، وفي مقدمتها ذوو الإعاقة.
في سياق هذا المشروع الطموح، أطلق المركز سلسلة من المنح المجانية المتخصصة، التي تستهدف بشكل مباشر بناء القدرات المهنية والشخصية لهذه الفئة. المبادرة لم تكن مجرد دورة تدريبية عابرة، بل مشروع حياة يعكس رؤية اجتماعية عميقة، ترى أن قيمة الإنسان لا تُقاس بقدراته الجسدية فقط، وإنما بقدرته على المشاركة والإبداع والإسهام في مسيرة وطنه.
هذا الجهد هو تعبير عن المسؤولية المجتمعية في أبهى صورها، إذ يقدّم فرصاً متكافئة للجميع، ويعيد صياغة مفهوم التمكين ليصبح فعلاً ملموساً لا شعاراً نظرياً.

الدكتور ة ميرفت إبراهيم مدير مركز ريدي فيوتشر للاستشارات
نجاح هذه المبادرة لم يكن ليتحقق لولا تضافر الجهود بين المركز والمجتمع المدني. وهنا برزت مبادرة “صوتك قوة” كحجر زاوية في هذا المشروع. المبادرة التي تقودها متطوعة فاعلة في الجمعية القطرية لذوي الاحتياجات الخاصة، وسفيرة السلام لقطر، لم تكن مجرد نشاط فردي، بل حركة إنسانية تسعى لإعلاء صوت من لا يُسمع.
“صوتك قوة” ليست عبارة دعائية، بل فلسفة وجودية تعكس إيماناً بأن الكلمة موقف، وأن التعبير حق، وأن المشاركة واجب. بهذا المعنى، شكّلت المبادرة جسراً يربط بين احتياجات المستفيدين وبين البرامج التي يقدمها المركز، لتصبح التجربة نموذجاً متقدماً في الدمج بين العمل المؤسسي والعمل المجتمعي التطوعي.
ما يميز المشروع أنه تجاوز النموذج التقليدي الذي ينظر إلى قضايا الإعاقة من زاوية الرعاية فقط. فالمبادرة لم تُصمّم لتقديم دعم مؤقت، بل لتفتح الطريق أمام الاندماج الكامل في المجتمع وسوق العمل. هنا يظهر التحوّل من منطق العطف إلى منطق العدالة، من منطق الإحسان إلى منطق الحقوق.

من أنشطة المركز
صمم مركز ريدي فيوتشر برنامجاً تدريبياً واسعاً يواكب متطلبات العصر، وينسجم مع أولويات الدولة في مجال الاستدامة والتنمية. وجاء البرنامج متعدد المحاور:
ـ ورش الاستدامة والزراعة: لتشجيع ذوي الإعاقة على المشاركة في تحقيق الأمن الغذائي المحلي، وربط الفرد مباشرة برؤية الاستدامة البيئية التي تشكل ركناً أساسياً في خطة قطر المستقبلية.
ـ دورات الذكاء الاصطناعي: إدراكاً لأهمية الثورة الرقمية، تتيح هذه الدورات مهارات تقنية متقدمة، تحول الإعاقة إلى قدرة رقمية تنافسية، وتفتح آفاقاً للاندماج في اقتصاد المعرفة.
ـ الموارد البشرية: تدريب مكثف لصناعة كفاءات إدارية قادرة على إدارة المؤسسات بوعي تنظيمي حديث، بما يتيح لهم فرصاً عملية واسعة.
ـ التفكير الإيجابي: لأن التمكين ليس مهنياً فقط، فقد ركّز المركز على بناء المرونة النفسية، وتعزيز الثقة بالذات، ومواجهة التحديات الاجتماعية بثبات، انسجاماً مع مبدأ أن القوة الحقيقية تنبع من الداخل.
اللافت أن هذه الدورات لم تمر مروراً عادياً، بل شهدت إقبالاً واسعاً من ذوي الإعاقة وأسرهم. حضور أولياء الأمور عكس التزام الأسرة القطرية بدعم أبنائها، وأكّد أن التمكين عملية جماعية لا فردية. لقد تحولت قاعات التدريب إلى مساحة لقاء إنساني واجتماعي، حيث تداخلت الطموحات الفردية مع الرؤية الوطنية، فصار كل إنجاز صغير خطوة نحو مستقبل أكبر.
لم يقتصر دور المركز على قاعات التدريب، بل امتد إلى رعاية مؤتمرات وفعاليات كبرى، تسعى إلى نشر الوعي المجتمعي وتعزيز بيئة عمل شاملة. هذه الرعاية لم تكن مجرد حضور شكلي، بل مشاركة فاعلة أعادت رسم ملامح النقاش العام حول قضايا الإعاقة، وحوّلتها إلى قضية وطنية كبرى ترتبط مباشرة بمسيرة التنمية.

في البعد النفسي، أعادت المبادرة تعريف مفهوم الذات لدى المستفيدين، فبدلاً من رؤية أنفسهم كأصحاب احتياجات خاصة يعيشون على هامش المجتمع، أصبحوا شركاء فاعلين في صياغة مستقبلهم. أما في البعد الاجتماعي، فقد عزّزت المبادرة قيم التضامن الأسري، حيث وجدت العائلات نفسها جزءاً من عملية التمكين. وفي البعد الوطني، أكدت أن الاستثمار في هذه الفئة ليس عملاً خيرياً، بل استثمار استراتيجي يعود بالنفع على النسيج الاجتماعي كله.
لا يمكن قراءة هذه المبادرة بمعزل عن التاريخ المعماري والاجتماعي لقطر. فالبلد الذي أعاد بناء مدنه بجرأة معمارية حديثة، وأطلق مشاريع حضارية مثل “الحي الثقافي كتارا”، و”متحف قطر الوطني”، لم يكتفِ بالبناء المادي، بل سعى لبناء الإنسان كجزء من هذه اللوحة العمرانية. وهكذا، يصبح “ريدي فيوتشر” امتداداً معنوياً لهذا المشروع الحضاري، حيث يلتقي العمران بالحياة، والبنية التحتية بالبنية البشرية.
حين ننظر إلى تجربة “ريدي فيوتشر” مع مبادرة “صوتك قوة”، فإننا لا نقرأ مجرد خبر عن منحة أو دورة، بل لوحة سردية متعددة الطبقات:
ـ طبقة إنسانية تؤكد أن لكل فرد حقاً في الكرامة والتمكين.
ـ طبقة اجتماعية تعكس تلاحم المجتمع القطري وتماسك الأسرة.
ـ طبقة نفسية تعيد بناء الثقة وتحوّل العجز إلى دافع.
ـ طبقة معمارية / تاريخية تجعل من هذه التجربة امتداداً لمشروع حضاري أكبر.
إن مبادرة “ريدي فيوتشر” ليست مشروعاً عابراً، بل تجسيد لمبدأ المواطنة الكاملة. وطن يعطي لكل فرد الأدوات اللازمة ليصبح شريكاً فاعلاً في التنمية. وطن يستمد قوته من تنوع أبنائه، ويحوّل التحديات إلى فرص، ويجعل من الاستثمار في الإنسان أهم استثمار.
هكذا، يصبح شعار “صوتك قوة” أكثر من مجرد كلمات، بل وعداً صادقاً بأن لكل صوت أثراً، ولكل إنسان مكاناً، ولكل حلم فرصة أن يتحقق.

راشد من الطلاب الداعمين للمركز


