عبد الكريم البليخ
حين رفع باريس سان جيرمان كأس دوري أبطال أوروبا، لم يكن ذلك انتصاراً عادياً في ملعب. كان التتويج احتفالاً بكامل المسار، إشادةً بمشروعٍ أراد منذ البدء أن يغيّر المعنى قبل النتيجة، وأن يعيد تعريف الهوية الكروية الفرنسية في قلب أوروبا الصلبة.
في تلك الليلة، لم تهتز فقط مدرجات الملعب، بل ارتجفت أيضاً ذاكرة امتدت لأربعة عشر عاماً من العمل المضني. بدأ كل شيء في 2011، عندما قررت مؤسسة قطر للاستثمار أن تشتري نادياً فرنسياً بمئة مليون يورو، في زمنٍ كانت فيه باريس لا تزال تتردد بين تاريخها الرياضي المتواضع وطموحها المدفون في المعمار الكروي للقارة العجوز. لكن الحكاية لم تكن عن شراء، بل عن صناعة. عن تحويل نادٍ من ملكية محلية إلى كيان عالمي بقيمة تتجاوز أربعة مليارات يورو، يحمل اسمه إلى طوكيو ونيويورك والدوحة.
لم يكن السعي وراء المجد الكروي فقط، بل وراء هوية كروية جديدة، تُكتب بحروف السياسة الناعمة والاقتصاد الذكي. فبينما كانت فرق أوروبا العريقة تتكئ على أمجادها، اختار باريس أن يبني من الصفر: بنى ملعباً يتنفس الحداثة، وشيّد مركزاً للتدريبات يُضاهي مراكز النخبة، واستقدم نجوماً دفع لأجلهم بسخاء، لا ليملأ بهم عناوين الصحف فقط، بل ليصنع من أسمائهم جسرًا إلى قلوب جماهير جديدة.
نيمار، مبابي، إبراهيموفيتش، ميسي، كافاني، دي ماريا، حكيمي… أسماء لم تكن مجرد لاعبين، بل رموز لمرحلة من التحوّل. لكنها، ورغم بريقها، لم تضمن شيئاً. سنوات مريرة في دوري الأبطال، انكسارات متتالية أمام البايرن والريال والسيتي، إخفاقات كانت تُفتت الحلم ببطء، لكنها لم تنهه. بل ربما كانت تلك الخسائر ضرورية، لتعلّم الفريق شيئاً أعمق من الفوز: أن الطريق إلى المجد يمرّ حتماً عبر وعي الذات، وأن النضج لا يُشترى، بل يُكتسب.
في موسم التتويج، كان الغياب الأهم هو كيليان مبابي. وفي هذا الغياب تكمن مفارقة عظيمة. لقد احتاج الفريق إلى الخروج من ظلال الفرد، ليتنفس كجماعة. ومع قدوم المدرب لويس إنريكي، اتضحت معالم مرحلة جديدة: صرامة فكرية، هدوء في الحضور، وجرأة في القرار. لم تعد التشكيلة استعراضاً للأسماء، بل وحدة عضوية تحترف الفعل الجماعي. أطاح الفريق بكبار إنجلترا: سيتي، ليفربول، أرسنال، واستكمل المهمة بالإجهاز على إنتر ميلان، في ليلة كانت تتويجًا لتيار كامل من التحوّلات داخل النادي.
بيد أن المعمار الحقيقي للنجاح لم يكن فوق العشب، بل في الطبقات السفلى من البنية: في اللاعبين الشباب كدويه وباركولا، في صلابة دوناروما، وفي حكمة ماركينيوس، وفي الاستثمار بالمستقبل قبل الحاضر. صار النادي لا يراهن على الأسماء وحدها، بل على فلسفة متكاملة ترى في الكرة مشروعاً مدنياً، ثقافياً، اقتصادياً، يحمل باريس إلى مقام آخر غير الذي عرفت به لعقود.
لم يأتِ التتويج بوصفه نهاية، بل افتتاحية جديدة. صار ديمبيلي مرشحاً للكرة الذهبية، وحكيمي رمزاً لقارة تبحث عن ممثلها، وإنريكي مهندس المرحلة القادمة. لكن الحقيقة الأهم أن باريس سان جيرمان، بهذا اللقب، لم يصعد منصّة فقط، بل صعد إلى موقع من يملك الحق في أن يحلم دون تردّد، وأن يكتب التاريخ بدل أن يقرأه.
وفيما كان الفرح يملأ سماء باريس، كانت إيطاليا تتنفس خيبة. الإنتر، بتاريخه الثقيل، تلقى صفعة لم تكن مجرد هزيمة، بل مرآة لواقع مؤلم: الكرة الإيطالية التي عاشت على أمجاد الماضي، وجدت نفسها فجأة في مواجهة حاضر لا يُجامل، تفرضه تحولات العصر المادية والفنية. صار لزاماً عليها أن تعيد بناء نفسها، لا في الملعب فقط، بل في فلسفتها الكروية العميقة.
تجربة باريس سان جيرمان تقول شيئاً بسيطاً وعميقاً في آن: لا يكفي أن تفوز، بل يجب أن تعرف لماذا تفوز، وكيف توظّف هذا الفوز في صناعة سردية تبقى بعد صافرة النهاية. هكذا يصير التتويج، في نهاية المطاف، لحظة تتويج لعقل جمع بين الحلم والانضباط، وبين الشغف والتخطيط، فصنع من نادٍ فرنسي هوية عابرة للحدود، ومن لعبةٍ جميلة، مشروعاً يقف على مفترق التاريخ.
أثبت النادي الباريسي أن الاستمرارية والصبر والمجازفة المدروسة، قادرة على تحويل ناديٍ من الطموح المحلي إلى الزعامة القارية. لم يكتفِ بأن يكون سيداً على الكرة الفرنسية، بل تجرّأ على الحلم الأكبر، وأمسك به. لم تكن الكأس في خزانته مجرّد فضة تلمع، بل مرآة تعكس رؤية عميقة، ومشروعاً صلباً، ومستقبلاً ينتظر أن يُكتب بالحبر ذاته: حبر الإرادة.