باليت المزمار

سنتمتر واحد فقط

 ستار كاووش

يقع مسبح مدينتي القديم في مكان رائع وجميل، حيث يقضي الكثير من الناس أوقاتهم هناك، ورغم أنه جميل وكل مواصفاته رائعة، لكنه من الطراز القديم، لذا قررتْ البلدية بناء مسبح جديد يتلاءم مع المتطلبات الحديثة التي يحتاجها الناس، كما يحدث مع الكثير من البنايات والمؤسسات وباقي متطلبات الحياة، وهكذا تم التحضير لإنشاء المسبح الجديد، وبدأوا بتنفيذ العمل الذي استغرق سنتين وكلَّفَ الملايين، فكانت النتيجة مذهلة من كل الجوانب، وأصبح المكان مثل جوهرة تلتمع في شمال البلاد، حيث يحتوي -إضافة الى أحواض السباحة – على أماكن للترفيه واللعب وممارسة الهوايات والأنشطة العديدة مثل الغوص والتزحلق واللعب في أحواض الموجات المتحركة وغيرها من التفاصيل التي تناسب كل الأعمار.

الى هنا والعملية طبيعية، لكن قبل الافتتاح الرسمي وأثناء معاينة المواصفات المذهلة للمسبح المدهش، اكتشفوا أن حوض السباحة الرئيسي أصغر بسنتيمتر واحد من الحجم المطلوب، وهنا تأجَّل الافتتاح وتم هدم المسبح وإعادة بناءه من جديد. سنتمتر واحد فقط لا غير، لم يُنتَبَه له ربما بسبب نوع البلاط السميك الذي كُسيتْ به الجدران، أو بسبب خطأ صغير وغير مُتوقع في الحسابات، لكن في النهاية كان عليهم تغيير بناء المسبح من جديد ليتلاءم مع المواصفات المطلوبة، لأن هذا المسبح ستقام عليه بعض المسابقات، لذا يجب الالتزام بالكثير من المميزات. وهكذا بعد التعديل الجديد أصبح المسبح جاهزاً هذا الشهر لاستقبال كل من يرغب بالسباحة أو يحب قضاء بعض الوقت قرب الماء.

مازلتُ أفكر بذلك السنتمتر المسكين الذي بسببه تم إعادة البناء من جديد. وفي ذات الوقت أفكر أيضاً ببعض البلدان التي يتجاوز فيها الكثيرون على مساحات شاسعة من المال العام. وليس هذا فقط بل تُبنى في تلك الدول الكثير من المولات والمجمعات بطرق لا تراعي ضمان حياة الانسان ولا تتطابق مع مواصفات الأمان، وبأموال لا تعرف مصادرها ولا من أين جاءتْ!

هناك حدود معينة للخطأ، يجب عدم تجاوزها كي يتمكن الناس من حلها بيسر، وهذا يحدث في كل مكان من هذه المعمورة. وبالنسبة لمسبح المدينة فالمُحاسَبة القانونية لم تطله وحده، بل وصل الأمر الى شركة الباصات الجديدة التي تم الاتفاق معها في عموم هولندا، والتي بدى عليها التقصير وعدم الالتزام بالتوقيتات الدقيقة، حيث كان الباص يتأخر ثلاث أو أربع دقائق، لذا تم تغريم شركة الباص مليون يورو في مقاطعة فريسلاند فقط، فيما تم تغريم ذات الشركة خمسة عشر مليوناً في جنوب هولندا لذات السبب. نعم على الشركة ان تعمل كل ما بوسعها كي يصل الباص فى وقته المحدد، فهو يهدر وقت الناس ويوصلهم بوقت متأخر لأماكن عملهم ودراستهم أو مواعيدهم المهمة.

القانون هو أساس تطور البلدان، حيث يعرف كل واحد حقوقه وواجباته وما عليه القيام به، فلا يمد الانسان يده يميناً وشمالاً ويغرف الأموال على طريقة تجار الأزمات والحروب وشراء الذمم. هنا نعرف الفرق الجوهري بين الفساد والتقصير، بين معالجة الأخطاء البشرية الصغيرة التي تبدو عابرة، وبين معالجة الكوارث بطرق تبدو كأنها كوارث جديدة.

علينا أن نتعلم حب المكان الذي نعيش فيه، أن ننتمي اليه ليس بالكلام فقط بل بالأفعال. فلا الشعارات الرنانة تخلق بلداً جميلاً، ولا التطرف بكل شيء يخلق عدل ومساواة. ويبقى الانسان هو أساس البناء، فحين تبني الانسان يرتفع الوطن وتسود الرفاهية الحقيقية والجمال. والرخاء ليس فقط بكمية الأموال التي يملكها البلد ولا بتاريخه العريق، بل بعقول الناس الذين يعيشون فيه، بالقانون والعدل، بالمحبة وروح التسامح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى