سيلفيا التي علمتني الكتابة

ستار كاووش
لم تَكُنْ كاتبة أو فنانة تشكيلية، وربما هي لا تزور المتاحف ولم تقرأ الكثير من الكتب. كل هذا لا يهم لأن الجمال والبلاغة والتأثير ينبثق في أحيان كثيرة من مناطق لم نتوقعها. هكذا كأننا نقع فجأة في غرام شيء ما، شيء يبدو عابراً، لكننا حين نمعن النظر فيه، نرى النور يأتينا من بعيد، ليشكل تركيب حياتنا ويضيف القطعة الناقصة من صورتنا الكبيرة التي نريدها ونبحث عنها.
هكذا كان تأثير امرأة بعيدة وغريبة، إنها الأم البرازيلية سيلفيا غريكو التي قرأت عنها وشاهدتُ صورها، حيث شدتني شخصيتها وروحها وتفانيها في التخفيف من معاناة ابنها نيكولاس الذي ولد كفيفاً ومصاباً بالتوحّد، حيث كانت تأخذه معها إلى ملعب كرة القدم في سان باولو لمتابعة مباراة فريقه المفضل (بالميراس). وقبلَ أن تبدأ المباراة تكون سيلفيا وابنها قد أخذا مكانيهما وسط المدرجات، لتشرع في مهمتها كمعلِّقَة شخصية لطفلها الكفيف. كانت سيلفيا تصف لابنها الأجواء وطريقة اللعب، وحتى ألوان ملابس اللاعبين، وكيف يسجلون الأهداف والطريقة التي يحتفلون بها، تهمس في أذنه وهي تشرح له طريقة هتافات المشجعين وإيماءاتهم وتفاعلهم، حتى اعتراضات بعض اللاعبين على الحكم تنقلها له بطريقة عاطفية يفهمها. ومع كل هدف جديد لفريقه تحضنه وتحتفل معه كما يحتفل اللاعبون مع زميلهم الذي سجل الهدف. وحين يخيم بعض الهدوء على الملعب، تقرب وجهها من وجهه هامسة بأنه وقت الاستراحة، فتجلب له الطعام الذي يحبه وتشاركه ما يشرب بمرح، وحين ترى بعض علامات المتعة على وجهه، تحرك رأسه برفق نحو الأعلى وتخبره بأن السماء زرقاء صافية هذا اليوم، ولهذا يبدو الجو طيباً. ومثلما عرَّفَتهُ بلون السماء، فهي كانت قد أخبرته قبلها بلون العشب الأخضر للملعب.
أياماً طويلة رافقت سيلفيا ابنها لمتابعة كرة القدم، حتى التقطتها ذات مرة إحدى كاميرات التلفزيون التي كانت تنقل المباراة. كان التلفزيون ينقل المباراة بشكل مباشر، فيما كانت سيلفيا تنقل المباراة لابنها بشكل مباشر أيضاً، لكن بطريقتها الخاصة، طريقتها التي كانت تلامس قلبه ومشاعره وكل حواسه، وهو يتفاعل معها بطريقة مدهشة. وهكذا انتشرتْ حكايتها وصورتها وتداولها الإعلام وتعاطفَ معها كل من عرف حكايتها.
عظمة هذه الأم هي أنها لم تترك ابنها أسير إعاقته وعجزه، بل ناضلتْ لتجعلهُ يُبصر العالم عن طريقها، وكانت له الطريق والنافذة والعيون. هذه هي عظمة الأم، وهذا هو الجمال الإنساني في أسمى درجاته، إنها سيلفيا التي اجتهدتْ بكل عاطفة وتفانٍ ليكون ابنها حاضراً في المكان الذي يحبه، يتحسس التفاصيل ويراها بعينيها، حيث كان يعرف من خلالها أسماء اللاعبين وألوان ملابسهم وطريقة لعبهم وحتى تسريحاتهم وألوان أحذيتهم. وليس هذا فقط، بل كانت تنقل له حتى تذمر اللاعبين من بعضهم أحياناً، ولا تتوانى عن تكرار بعض الشتائم الصغيرة التي يُلقيها بعض اللاعبين ضد خصومهم، لتوصل له الفكرة وتجعله يعيش في المناخ الحقيقي لِلُّعبة. ولم تتردد سيلفيا بالقيام من كرسيها في اللحظة التي يكاد أن يُسجِّلَ فيها أحد اللاعبين هدفاً، فتمر الكرة بجانب قائم الهدف، وهو يتفاعل معها وكأن الكرة قد خطفت من أمام وجهه فعلاً. ولم تشعر سيلفيا بالحرج حين تكسر إيقاع المباراة أحياناً من أجل صبيها، فتغني مع المشجعين وتشرح له الأغاني. لا شيء وقف في طريق هذه الأم العظيمة وهي تسعد ابنها بهذه الطريقة الفريدة. هذه الأم الرائعة التي أعطت مثالاً عن كيفية تحويل المستحيل إلى ممكن، وكتبت حكايتها بعينيها الطيبتين وقلبها المليء بالمحبة. وهكذا جعلت حياة ابنها جميلة، بل وتعدَّت ذلك لتجعل حتى كرة القدم أجمل.
شخصياً تعلمتُ من هذه المرأة أن ليس هناك عجزٌ حقيقيٌّ، ما دمنا نتنفس هواء هذه الحياة، وبالمحبة والصدق والإيمان يمكننا أن نحول ما نملكه إلى طاقة هادرة ومذهلة. الحب هو الذي يجعلنا نبصر العالم ونراه بطريقة جديدة ورائعة. وتوصيل الأفكار لا يحتاج إلى تعقيدات غير ضرورية، بل إلى بساطة ومحبة.
وإن كان هناك شخصٌ يمكنه إيصال أفكاره ومحبته ويفتح الأبواب لشخص كفيف كما فعلت سيلفيا مع ابنها، فهذا هو ذروة الإبداع والجمال الإنساني. سيلفيا فهمتْ دورها كأم وعرفتْ كيف توصل فكرتها العظيمة بطريقة عاطفية ووسائل بسيطة ويومية. ألم يقل أينشتاين ذات يوم (إن لم تستطع شرحَ فكرتك لطفل في السادسة فأنت نفسك لم تفهمها بعد).




