Site icon المزمار الجديد

طاولة منفردة

ستّار كاووش

كلما تحررنا من الرقابة والقيود، أصبحت تصرفاتنا أكثر عفوية، وكلما تجاوزنا نظرات الآخرين إلينا، غدت أرواحنا أكثر خفّة ومرونة.

فما دمنا لا نخدش حياة الآخرين ولا حياءَهم، فلماذا لا نمضي في حياتنا وتصرفاتنا كما نريد؟

لكن وسط هذه الحرية والعفوية تبرز بعض التفاصيل والتصرفات التي تجعلنا نبتسم، إمّا بسبب غرابتها، أو بسبب المكان الذي حدثت فيه.

أتذكّر في إحدى المرات حين كنتُ في الطائرة الذاهبة من أمستردام إلى روما، حيث جلستُ في المقعد المخصص لي، وليس في ذهني سوى سقف كنيسة سياستينا كابيل التي كنتُ سأزورها لأتأمل السقف الذي رسم عليه مايكل أنجلو أعظم أعماله.

وفيما أنا أتخيل حركة الشخصيات التي أمضى مايكل أنجلو أربع سنواتٍ في رسمها، إذا بشابٍ في منتصف الثلاثينيات من عمره يجلس في المقعد المجاور لي.

كان يمسك حقيبة يدٍ صغيرة بإحدى يديه، فيما يتأبط تحت ذراعه الأخرى حقيبة منبسطة تشبه الملف. لم يضع ما يحمله في مكان الأمتعة فوقنا، بل ركن ما معه على الأرض أمام قدميه.

شعره الأشقر الطويل المنسدل دون اهتمام على كتفيه منحه مظهراً لا مبالياً، وقد بدا متعجلاً بانتظار إقلاع الطائرة، هذا ما أوحت به حركة أصابعه ونظراته نحو الخارج.

ربطنا الأحزمة وانتظرنا بعض الوقت، حيث مرت الدقائق بسرعة وأنا أتصفح المجلة الموضوعة في السلة خلف الكرسي الذي أمامي. بدأت الطائرة بالإقلاع، ثم مرّت المضيفة بعد قليل بعربتها الصغيرة تسألنا عن الشراب والطعام الذي نريده، فطلبتُ أنا قدح قهوة وشطيرة جبن، فيما طلب جاري قدح ماء فقط، شربه بسرعة قبل أن تكمل المضيفة طريقها، ثم ناداها ليأخذ القدح الفارغ.

أثارت شخصية جاري انتباهي، لكني مضيتُ مستمتعاً بقضم شطيرة الجبن وتذوّق القهوة.

لم يستطع الشاب الانتظار أكثر، فنزع الحلقة المطاطية الصغيرة التي يربط بها معصمه، وربط بها شعره إلى الخلف، ثم مدّ يده وفتح حقيبته وأخرج مجموعة من أوراق الكانسون التي تعرفتُ على نوعها بسرعة، ووضعها على الطاولة الصغيرة المثبتة أمامه.

أصابني الفضول وأنا أنظر إلى الأوراق التي يمتلئ مرسمي بمثلها وبالحجم ذاته، لكن جاري لم يمنحني فرصةً للتفكير بالأمر، فأخرج مجموعة من الأقلام وبدأ بالرسم.

نظرتُ إليه بطرف عيني فوجدته منشغلاً لا يلوي على شيء. كانت يده تتحرك بسرعةٍ عجيبةٍ فعلاً، إذ قسَّم الورقة إلى مستطيلاتٍ صغيرة، ثم بدأ بالرسم وهو ينظر بين وقتٍ وآخر إلى أوراقٍ صغيرةٍ مكتوبٍ عليها نصوصٌ قصيرةٌ تشبه السيناريو.

كانت أصابعه تتحرك والشخصيات تتحرك معها، وما أن ينتهي من كادرٍ حتى ينتقل بسرعة إلى كادرٍ آخر، وحين تمتلئ الورقة بالرسومات المتسلسلة، يسحب ورقةً جديدةً ويمضي لإكمال الشخصيات والأحداث التي انشغل بها.

وهكذا قضى كل الوقت يرسم القصص المصوّرة في الطائرة دون أن يهتم لشيء، ولم يفكر بالطعام أو الشراب أو بمن يجلس بجانبه.

فقد كان لديه هدفٌ واحدٌ فقط: أن يُكمل الرسومات بالأبيض والأسود (الألوان تأتي في مرحلةٍ لاحقة).

كان الجمال ينبثق كينبوعٍ من الكرسي الذي بجانبي، وأنا أتابع الأمر هذه المرة ليس كفنان، بل كمشاهدٍ مستمتعٍ بالنظر خلسةً وبهدوءٍ إلى قلم التحبير الذي يتحرك بسرعة ويترك وراءه أحداث القصة التي تتواصل دون توقف.

كان واضحاً أن هذا الفنان لا يهتم بالرسم بواسطة الحاسوب، بل يريد رسوماً فيها حرارة الأصابع التي ترسمها، وخفّة اليد التي تنفّذها، يُضاف إلى ذلك أثر الروح المضيئة التي تبتكر الخطوط وتتابع أحداث القصة.

أما بالنسبة لي فالمهم هو الفنان ذاته، هذا الإنسان الذي تنثال بين يديه كل هذه التفاصيل. وهذا في الحقيقة أحد الجوانب المهمة التي جعلتني أحب الرسم وأنتمي إليه طوال حياتي.

قبل أن نصل بقليل كانت هناك فسحة صغيرة من الوقت، اغتنمتها وأخبرته بأن الرسومات جميلة وسريعة جداً، فابتسم وهو يفتح شعره ويعيد الحلقة المطاطية إلى معصمه من جديد، وقال لي إنه عليه تسليم هذه الرسومات مساء اليوم، ويعتقد أنه قد أكمل المهمة بشكل جيد.

تمنيتُ له حظاً طيباً فيما الطائرة بدأت بالهبوط.

الكثير من الفنانين ينتظرون إلى آخر لحظةٍ كي يُكملوا المهمة التي أُوكلت إليهم، وهم يشعرون غالباً أن الأمور ستنتهي بشكلٍ جيد.

أتذكّر حين كنتُ أعمل في مجلة ألف باء في بغداد بداية التسعينيات، كان عليَّ رسم مجموعة من الرسومات التي ترافق النصوص الأدبية في كل عددٍ من المجلة، وأحياناً تُضاف إليها الموتيفات التي تواكب الأجوبة على بريد القرّاء، فيكون عددها عشر رسومات أو أكثر.

لكن الوقت كان يمضي بسرعة، وحين يتبقى لي يومٌ واحدٌ لتسليم الرسومات، أكون على موعدٍ مع أصدقائي (كالعادة) للسهر في نادي اتحاد الأدباء أو جمعية التشكيليين.

وبما أني كنتُ أحمل معي دائماً حقيبتي المليئة بالأوراق والأحبار، كان الحلّ عادةً أن أختار طاولةً منفردة أولًا، أجلس هناك وأرسم تخطيطات المجلة، ثم ألملم أوراقي وأضعها في الحقيبة وأعود إلى طاولة أصدقائي مطمئناً، لا أخشى السهر ولا التأخر بالنوم، ما دام المصمم بلاسم محمد سيدفع بالمجلة إلى المطبعة غدًا عند الظهيرة.

Exit mobile version