عودة تحمل وجعاً

عبد الكريم البليخ
كان صديقي عبد الفتاح هو المبادر هذه المَرة، وقد بدا كمن يُريد أن يفتح نافذة جديدة للهواء النقي بعد سنوات من الغبار، أو كمن يبحث عن خيط ضوء يُعيد للحياة شيئاً من معناها. لم يكن الأمر مجرد حديث عابر، بل رغبة حقيقية في استعادة ما انقطع، وفي إعادة بناء جسر متهالك أكلته رياح الغربة وقسوة الزمن.
لقد فرّقتنا السنون الطويلة، وترك الانقطاع بيننا فجوة لا يُستهان بها، حتى كدنا نظن أنّ ما كان بيننا صار ماضياً لا رجعة له. كنّا نلتقي يوماً بصورة يومية، نضحك ونتجادل ونتشارك تفاصيل الحياة الصغيرة، ثم جاءت تلك المسافة الثقيلة التي لم تترك مجالاً إلا لمراسلات متقطعة عبر “واتساب”، أو “ماسنجر”، وأحياناً رسالة صوتية قصيرة لا تفي بالغرض ولا تروي عطش الروح. وكان عبد الفتاح يعلّل فتور التواصل بضعف الإنترنت وانقطاعه المستمر، وكأنّ تلك الأعذار التقنية قادرة على أن تبرّر ما أحدثه الزمن من شرخ.
لكنّي كنت أعلم أن المسألة أعمق من عطب الشبكة أو بطء الإشارة. لقد كان التباعد النفسي أثقل من كل ذلك. كان صديقي نفسه، وهو من اعتدت أن أجده حصناً وسنداً، يقف أحياناً حاجزاً في وجه اكتمال العلاقة كما عرفناها من قبل. كأنّ الحياة أرادت أن تقول لنا إنّ الصداقة أيضاً، مهما كانت صافية، قد تنكسر تحت وطأة الظروف.
لقد جمعنا ذات يوم ما هو أكبر من مجرد مودة عابرة. كانت صداقة متينة تشكّلت في حضن الحارة القديمة، حيث كانت الجدران تشبه الأمهات: تسهر على أبنائها وتفقدهم مع كل فجر. هناك، وسط زحمة الأصدقاء والجيران والمعارف، عشنا كأننا عائلة واحدة، نشارك الأفراح والهموم، ونتقاسم لقمة العيش والفكرة والحلم. استمرت تلك الأيام زمناً طويلاً، حتى جاءت العاصفة التي شتّت شملنا.
منذ أكثر من خمسة عشر عاماً تغيّر كل شيء. غادرتُ إلى أماكن بعيدة أبحث عن أفق آخر، بينما آثر عبد الفتاح البقاء في الوطن، رغم الأسى، ورغم ما كان يدركه من قسوة المستقبل. تنقّل داخل البلاد، محاولاً أن يجد موطناً أكثر أمناً، لكن المعاناة بقيت تلاحقه وأسرته في كل مكان. ظلّوا يصارعون الفقر والإذلال والقهر، ويتحمّلون انقطاع الخدمات وارتفاع الأسعار، فيما البطالة تعصف بالشباب وتلقي بهم في هاوية العَجز. كان البلد كلّه يغرق في بؤس لا قرار له.
أما أنا، فقد وجدتُ نفسي مضطراً إلى أن أنجو بجلدي وأسرتي. انتقلت أولاً إلى مدينة قريبة من العاصمة، ثم حصلت بعد محاولات طويلة على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة. كانت المرة الثامنة التي أتقدّم فيها بطلب، وكأنّ القدر كان يختبر صبري حتى اللحظة الأخيرة. من بيروت حملت جواز السفر المختوم، ومن هناك واصلت طريقي حتى وصلت إلى ولاية أميركية بعيدة، حيث أقمت أكثر من عام في عالم بدا لي غريباً كل الغرابة، لكنه أكثر رحمة مما تركت خلفي.
ومع كل ذلك، لم يكن الغياب عن الوطن يعني راحة مطلقة. كانت صورة عبد الفتاح، ومعاناته، وصوت أهله الذين يكابدون كل يوم من أجل البقاء، ترافقني كظلّ لا يُفارقني. كانت تفاصيل الحياة هناك تُروى لي عبر مكالمات متقطعة، عن انقطاع الكهرباء والماء، عن ندرة الإنترنت الذي صار وسيلة وحيدة للتواصل بين الداخل والخارج، عن انهيار الليرة السورية أمام الدولار، حتى بات الناس يبيعون ما تبقى لهم من مقتنيات ليشتروا ما يسدّ رمق يومهم.
لقد أصابت البلاد جراح غائرة لم يسلم منها أحد. العائلات تمزقت، الأصدقاء تفرّقوا، وكل فرد انشغل بمعيشته وهمّه. صار الحفاظ على الحياة نفسها معركة يومية. وفي هذا السياق بدا طبيعياً أن تخبو علاقات كانت يوماً ملاذنا من قسوة العالم.
ومع ذلك، لم يمت كل شيء. حين عاد عبد الفتاح ليطرق باب صداقتنا، شعرت كأنّ ذاكرتنا المشتركة تنبعث من تحت الركام. لم يكن الأمر سهلاً؛ فالزمن قد غيّرنا، والتجارب جعلتنا أكثر حذراً وأقل اندفاعاً. لكنّ جذوة الصداقة القديمة لم تنطفئ تماماً. لقد بقيت الذكريات الطيبة، بكل عبقها وأيامها المضيئة، شاهدة على ما كان. وما أكثر ما تستفزّنا تلك الذكريات لتذكّرنا بأنّ ما جمعنا في الماضي كان أكبر من أن يُمحى بجرة غياب.
جلسنا، ولو عبر شاشة صغيرة، نعيد ترميم ما تصدّع. لم يكن هدفنا أن نعود كما كنا تماماً؛ فذلك زمن لن يتكرر. لكنّنا أردنا أن نمنح ذواتنا فرصة لاستعادة شيء من الدفء، لعلّه يعيننا على مواجهة ما تبقّى من العمر. لقد اتفقنا أن نطوي صفحة الانقطاع، وأن نترك الزمن يمضي بما حمله من قسوة وخسارات، مقابل أن نستحضر ما منحنا إياه من دروس وذكريات.
الصداقة الحقيقية، في جوهرها، ليست مجرد لحظات مشتركة، بل قدرة على البقاء في القلب مهما تباعدت الأجساد. هي أشبه بجذور شجرة عميقة؛ قد تذبل أوراقها في موسم قاسٍ، لكنها تظل متجذّرة في الأرض، تنتظر المطر لتعود وتزهر. وهذا ما أردنا أن نؤكده لأنفسنا: أنَّ المطر قد يتأخر، لكن الأرض لم تمت بعد.
لقد تعلّمت من تجربة عبد الفتاح أنّ البقاء في الوطن رغم القهر نوع من البطولة الصامتة، وأنّ الصمود هناك لا يقلّ قيمة عن الهجرة بحثاً عن الأمان. كلٌّ منّا اختار طريقه، لكن كلاً منّا ظلّ يحمل جرح الوطن بطريقته الخاصة. وأنا إذ أحمل وجع الغربة، فإنه يحمل وجع البقاء، وبين الوجعين ثمّة مساحة مشتركة هي التي أعادتنا إلى بعضنا البعض.
إنّ عودتنا إلى الحوار لم تكن مجرد لقاء بين شخصين تفرّقا ثم التقيا. كانت أشبه بمصالحة مع الذات، مع الماضي الذي حاولنا أن ندفنه فلم يمت. كانت أيضاً محاولة لإعادة الثقة بالإنسان في زمن خذل فيه الإنسان أخاه. وربّما، وهذا ما يَهمّ أكثر، كانت تأكيداً أنّ الذكريات، مهما شاخت، قادرة أن تُلهم الحاضر وأن تفتح نافذة صغيرة نحو غدٍ أقلّ قسوة.
وهكذا، أخذنا نرسم ببطء معالم علاقة جديدة، لا تشبه تماماً ما كان، لكنها تحمل روح ما فقدناه. نضحك حين نستعيد مواقف قديمة، ونصمت حين يُثقلنا الحديث عن حاضر لا يحتمل السخرية. وبين الضحك والصمت يتشكّل شكل جديد من الصداقة، أكثر نضجاً وعُمقاً، وإن كان أقل صخباً واندفاعاً.
إنّ العودة بعد انقطاع ليست مجرد استئناف لحكاية توقفت، بل هي كتابة فصل جديد بحبر مختلف. هي أشبه بمحاولة إصلاح قطعة خزف قديمة، حيث تظلّ الشقوق واضحة، لكنّها تضيف جمالاً خاصاً لا يَعرفه إلا من عاش التجربة. وهذا ما نحن عليه الآن: شقوقنا واضحة، لكنّنا صرنا نُحبها لأنها دليل على أننا لم ننكسر تماماً.