عين على الحقيقة

عبد الكريم البليخ
الصحافة لم تكن يوماً مجرد مهنة بالنسبة لي، بل كانت النافذة التي أطلُّ منها على العالم، والمرآة التي أرى فيها نفسي على حقيقتها. هي وطنٌ للبوح، وميدانٌ للحق، وعالمٌ لا تحدّه الجغرافيا ولا يقيّده زمن. وكم من مرة شعرت، وأنا أنشر مادة صحافية كتبتها، بأنني أمسكت بكنزٍ ثمين، أو كأنني قبضت على لحظة من الخلود، في زمنٍ يَفرُّ من بين أيدينا كالماء.
هي الصحافة، “صاحبة الجلالة”، كما يُقال، وأنا أحد عشاقها المتيّمين. عشت في كنفها أجمل لحظات حياتي، رغم ما فيها من مرارة وخيبات، رغم ما فيها من صور مقزّزة تُفصح عن عتمة الإنسان حين يتجرد من ضميره، وتشي بفساد لا يَحجُبه ستار.
انطلقت رحلتي مع القلم في مدينتي الرّقة، درّة الفرات، التي تحمل اسمي كما لو أن قدري مكتوبٌ على أرضها.
نشوة النشر لم تكن يوماً مجرد حبر يسيل على الورق، بل إحساس بالانتصار، وكأنني أمسكت زمام الحقيقة وسط دخان كثيف من الزيف، كمن يعثر على كنز بين أنقاض مدينة غمرها الظلم. وكلما نُشرت لي مادة، شعرت وكأنني ضَممت العالم كله إلى صدري، كأن شيئاً ما في الروح استقام، وانزاح ستار عن مشهد كان يجب أن يُرى.
ومع ذلك، فإن درب الصحافة لم يكن يوماً مفروشاً بورود السرد النقي. كان، وما يزال، معبّداً بالأشواك، تفوح منه رائحة العرق والخوف، وتحرسه كلاب الحراسة التي درّبها الفساد على النباح عند أول محاولة للاقتراب من الحقيقة.
كانت البداية في مدينة الرّقة، تلك الدرّة المهملة التي يغسلها الفرات وتغسلني ذكراها كلما نظرت إلى الوراء. الرّقة، المدينة التي نهشتها الحرب كما تنهش الذئاب أجساد المهاجرين في العراء، لم تكن يوماً مجرد مسقط رأس. كانت الجرح والبلسم، وكانت مرآةً عكست أولى ملامحي المهنية، حين خضت معارك الحبر ضد صمت الجهات، وضد طغيان الكراسي.
في الأزقة الطينية للرقة، تعلمت أن للصحافة روحاً، لا تقبل المساومة. في حواريها الترابية، وبين بساتينها ومضارب أهلها الذين يعيشون على الزراعة وتربية الماشية، كان أول اختباري. هناك، في الشمال السوري، وقعت على قضية بدت للوهلة الأولى كغيرها من الشكاوى: أراضٍ تُباع دون علم أصحابها، وفلاحون يُقصَون من أراضيهم في جُنح الظلام، كأن الأرض لم تُروَ بعرقهم، وكأنهم لم يكونوا أصلها وفرعها.
جمعت الوثائق كما يجمع الفلاح حبّات القمح في موسمه، بكل حب وتؤدة. قدمت الملف للجهات المختصة، فأنكروا، أنكروا كل شيء، كما ينكر الطغاة الظلم وهم جالسون على أرائكه. لكن الصحافة، حين تكون صادقة، لا ترتجف. كتبت، ونشرت، فَزَلزَلَ الحبر الكراسي، وجاءت لجنة تفتيش من العاصمة لتتحقق. وسقط رأس الاتحاد، وسقطت معه أقنعة كثيرة.
لكن هذه “الضربة” لم تكن مجرد إنجاز مهني؛ كانت نقطة تحول. إذ أن من نصّب ذلك المسؤول، كان من أصحاب النفوذ، ومن رجال العاصمة الذين يُهابون في الرّقة كما يُهاب المطر في زمن الجفاف. وقدر لي أن ألتقيه بعد سنوات، في مصادفة سخرت منها الحياة، في استوديو تصوير بسيط، حيث كان “الكبير” وقد تقاعد، يجلس مجرداً من سلطته، ليعاتبني على نشر القضية. قلت له بهدوء: “أنا صحفي.. أعمل بضميري.. ومَهَمتي ليست التلميع، بل كشف العَفن”. نظر إليّ، ولم ينبس بكلمة. وعرفت حينها أن الكلمات، حين تصدر من جوف الحقيقة، تصيب الهدف، حتى وإن لم تعترف به الضحية.
الرقة، المدينة التي دمرتها “داعش”، ليست مدينة من تراب وماء، بل كائن حي، خضع لتشريح فج، وقُطع جسده أمام عيوننا. كم كانت قاسية تلك المرحلة، حين احتلتها غربان الظلام، وقتلت وشردت وأحرقت، ثم تركتها خراباً. كيف أصف مشهداً كنت أعيشه بكل خلية في جسدي؟ كيف أشرح معنى أن ترى مدينتك تُغتصب وتُباع وتُدمر أمامك، بينما العالم يكتفي بالتقارير الصحافية التي تتحدث عن “الوضع في الرّقة” كأنها حالة طقس؟
ومع ذلك، لم تكن داعش وحدها عدو الحقيقة. فقبلها، كان الفساد. وكان أشخاص لا يهمهم سوى استغلال المناصب وسرقة قوت الناس. كنت أراهم يومياً، يتباكون من الفقر، وهم يركبون سيارات فارهة، ويقيمون الولائم. يتذمرون من الرواتب، وهم ينهبون المشاريع العامة، ويتقاسمونها مع المقاولين في صفقات تعفّ عنها الأخلاق، لا القوانين فقط.
هل يمكن للصحافة أن تنتصر في وجه هذا التواطؤ العميق؟ ربما لا، لكن وظيفتها أن تحاول، أن تسجل موقفاً، أن تترك بصمة في ركام الصمت.
في إحدى المناسبات، وكان مهرجان “طلائع البعث” على الأبواب، كتبت مادة عن سوء الخدمات في المدينة، عن مشاريع غير مكتملة، وشوارع لم تُعبّد، وأموال صُرفت في الهواء. وبدلاً من أن يُحقق في الموضوع، استدعاني المحافظ إلى مكتبه، وكان في حينها أحمد شحاذة خليل. هناك، وجدتُ نفسي أمام تمثال من الغطرسة. شتَم، وهدّد، وتباهى بأنه “فوق القانون”. وكان كل ذلك أمام شاهد عيان، هو المهندس خليل الشلاش، رئيس نقابة المهندسين، الذي جلس مذهولًا من فرط الفجاجة، ولم ينبس ببنت شفة، غير قادر على الدفاع عن واقع يعيشه يومياً في كل حي وشارع من شوارع الرقة المتربة.
لم أرد. واجهته بالابتسامة. تركته يفرغ سمومه، ثم خرجت. لم أكن أريد انتصاراً شخصياً، بل أردت أن أترك للمحافظة صوتاً.
مرت الأعوام، وغادر ذلك المحافظ منصبه، التقيته صدفة في أحد فنادق دمشق، ولم يعد ذاك المتغطرس الذي كان، بل بدا باهتاً، منهكاً، وقد شرب حتى الثمالة من خيرات لا يستحقها. نظرت إليه بازدراء، وفي قلبي يقين أن الكراسي لا تخلّد أحداً، وأن بقاء الإنسان مرهون بما يُقدمه للناس، لا بما يَسلبه منهم.
الصحافة ليست فقط ما يُكتب وينشر، بل ما يُعاش، ما يُكتم، ما يُدافع عنه في الخفاء. هي مقاومة، ضد الصمت، ضد القبول، ضد الركون للزيف. وهي فعل حبّ كذلك، حب للناس، للمكان، للعدالة، للحقيقة مهما كانت موجعة.
وإذا كانت المناصب لا تدوم، فإن الكلمة الصادقة، ولو همساً، تدوم. تبقى، كما تبقى آثار المسامير في الجدار، حتى بعد أن تُسحب. فالمسؤول الذي لا يعرفُ غير مصلحته، سيزول. أما من يزرع في تربة المهنة بذور الأمانة، فسيُثمر، حتى لو تأخر المطر.
أنا لم أكن صحفياً فقط، كنت شاهداً. وبهذا المعنى، كنت مؤرخاً لرقةٍ تُقتل مراراً، وتنهض في كل مرة من رمادها. ورغم كل ما حدث، تبقى الرّقة مدينتي، وتبقى الصحافة معركتي. ولن أتوقف عن الكتابة، ما دام في هذا العالم من يستحق أن يُكتب له، أو يُكتب عنه.
هكذا، ظللتُ أمشي في درب الكلمة، أحملها كأمانة، أقاوم بها القُبح، وأحرسُ بها الذاكرة من النسيان. فإن نسيت الشعوب وجعها، فلا بد أن يتذكّره الصحافيون، أولئك الذين يكتبون لا من أجل المديح، بل من أجل أن يبقى الوطن حياً في وجدان أهله، مهما تآمر المتآمرون.
28/5/2025