علي قاسم
فينيسيا، الأيقونة التي ألهمت العالم الرومانسية والانطباعية، تواجه خطر الغرق، ليس بسبب مياه البحر، بل تحت طوفان من السياح والنشالين. وبينما تحتفل المدينة باستضافة مهرجانها السينمائي السنوي الـ82، يطرح السؤال: هل ستظل هذه الجوهرة المائية رمزاً للجمال، أم ستغرق في الفوضى؟
الأرخبيل الساحر في إقليم فينيتو، يضم 118 جزيرة متصلة بـ400 جسر وقناة، أبرزها القناة الكبرى، شريان حياة المدينة التي تأسست في القرن الخامس كملجأ للاجئين، وتحولت بحلول العصور الوسطى إلى قوة بحرية وتجارية عظمى، وأصبحت جسراً يربط الشرق بالغرب، ومركزاً للتبادل الثقافي.
في عصر النهضة، تحدت فينيسيا عوامل الطبيعة بأعمدتها الخشبية المغروسة في الطين، وأصبحت مختبراً فنياً. وبينما هيمنت فلورنسا على الهندسة، اكتشفت فينيسيا سحر الضوء المنعكس على الماء. فنانو مدرسة فينيسيا، مثل تيتيان، الذين أعادوا صياغة اللوحة بلمسات لون جريئة في أعمال مثل “عذراء الصخور”، مهدوا الطريق للانطباعية، التي قيل إن مؤسسها إدوارد مانيه خرج من معطف تيتيان، وأضاف تينتوريتو البعد العاطفي إلى “العشاء الأخير”، واحتفل فيرونيزي بالحياة في “زفاف قانا”. موسيقيا، أبدع فيفالدي “الفصول الأربعة”، وكانت مسارح مثل تياترو لا فينيس مركزاً للأوبرا.
فينيسيا، التي وهبت العالم هذا الإرث الفني، تواجه تهديدات وجودية: ظاهرة “الأكوا ألتا” (المياه العالية) تغمر ميدان سان ماركو، مع توقعات بأن تصبح المدينة غير صالحة للسكن بحلول عام 2100. السياحة المفرطة تُفاقم الأزمة، إذ يزور فينيسيا حوالي 30 مليون سائح سنوياً، مما يرهق بنيتها التحتية الهشّة. السفن السياحية، رغم الحظر الجزئي، تسببت في تآكل الأساسات. عدد السكان انخفض من 175.000 في الخمسينات إلى أقل من 50.000 اليوم، هرباً من ارتفاع تكاليف المعيشة. التلوث البلاستيكي يهدد القنوات، بينما تتآكل الأعمدة الخشبية بسبب تغيرات الملوحة.
ولكن، أخطر من تلك التحديات التي تواجه المدينة، خطر جديد هو جحافل النشّالين، الذين غزوا المدينة مثل الجراد، وتنتشر لافتات تحذّر منهم بلغات متعددة، لكن المحافظ تُسرق يومياً من جيوب عشرات السياح. وتشكل الأعداد الهائلة لزوار المدينة هدفاً جذاباً لعصابات إجرامية تضم رجالاً ونساءً وأطفالاً.
مشكلة النشل ليست جديدة. في عام 1961، اشتكت صحيفة “إل جازيتينو”، “لا يمر يوم بلا لصوص”. لكن مع ازدياد أعداد السياح، تفاقم الوضع. في مركز الشرطة المقابل لكاتدرائية القديس مرقس، تُكدَّس 15 شوالاً أسود مليئة بالمحافظ عُثر عليها خلال شهر ونصف، مرمية على الأرصفة أو في القنوات بعد نهب محتواها.
النشل في فينيسيا عملية منظمة. تستغل العصابات الأزقة الضيقة ومحطات القطارات والحافلات، حتى الأطفال دون سن الـ14 عاماً – الحد القانوني للمسؤولية الجنائية – الذين يُطلق سراحهم بعد ساعات من الاحتجاز. ورغم كاميرات المراقبة التي تنتشر في كل زاوية، فإن الشرطة تصل متأخرة.
إنها فرصة لمهرجان فينيسيا الـ82 لتسليط الضوء على هذه التناقضات، بينما المدينة تحتفل بإرثها الثقافي وتكافح هجمات السياح وجرائم النشل.
إرث فينيسيا، الفني والثقافي، من لوحات تيتيان إلى أنغام فيفالدي، يستحق الحماية. لكن دون إجراءات عاجلة قد تغرق المدينة، ليس فقط في الماء، بل في فوضى السياحة وغزوات النشالين.