كلمة حق

في زمن النباح الصامت

عبد الكريم البليخ

في المدن القديمة، حين كانت الأسوار تحيط البيوت وتحفظ الأسرار، وحين كانت الأزقّة تضجّ بصدى الحياة وارتعاش الحقيقة، كان هناك دائماً من يَحرُس. ليس دائماً من يحمل السلاح، بل من يحمل الوعي. في الهامش، عند التخوم، حيث لا تسطع الشمس كثيراً ولا تصل يد السلطة بسهولة، كانت “الكلاب” تحرس، تنبح، تعترض، تحذّر، وإن فعلت ذلك بفوضى أو بعنف. لم يكن أحد يثق تماماً بها، لكن لا أحد كان يستطيع أن يتجاهلها.

كانت الكلاب صورة رمزية لأولئك الذين يراقبون: الصحفي حين يخط قلمه دون إذن، المثقف حين يصرخ ضد السائد، الفنان حين يرسم ضد التيار، المعارض حين يعلن لا في وجه نعم. لم تكن هذه الفئات دائماً طاهرة أو نبيلة، بل كانت في أحيان كثيرة مدفوعة بحسابات أو أحقاد أو حتى رغبة في التمرد لأجل التمرد. لكنها كانت هناك. وكان صوتها مسموعاً، مهما كانت نبرته منفّرة أو مزعجة. كان النباح، في ذاته، دليل حياة. وكان السُعار، بكل ما يحمله من دلالة جنون، إشارة إلى أن الدم لا يزال دافئاً في عروق الاعتراض.

لكن الآن…

في هذه المرحلة المتشظية من الزمن، حيث الأبواب مفتوحة، لكن لا أحد يجرؤ على الخروج، وحيث النوافذ مشرّعة، لكن لا أحد يتنفّس، باتت “الكلاب” صامتة. ليس لأن الخطر قد زال، بل لأنها هي التي زالت من المشهد، أو بالأحرى، تراجعت حتى لم تعد تُرى. فقدت حاستها الأولى: الصوت. ذلك الصوت الذي كان يسبق الانهيار ويحذّر منه، صار مجرّد صدى باهت في ذاكرة الجدران القديمة.

لقد أصبحت الكلاب خاملة، فاقدة لذلك القلق الجميل الذي يسبق النباح. باتت تنظر إلى المارّة بعيون فارغة، لا حقد فيها ولا فضول، كما لو أن العالم لم يعد يهمها. والأسوأ من ذلك، أن الناس باتوا يمرّون من جوارها دون حذر. لا أحد يخشى غضبها، لا أحد يحذر من عضّتها. لقد صار حضورها شكلياً، كمجسّم في متحف، كظلّ لوظيفة منقرضة.

أين تبخر ذلك الدور المجتمعي الذي وإن اتخذ طابعاً شرساً، كان يحمل طاقة حماية أو رفض؟

كيف فقدت هذه الكلاب ـ الرمز، الفئة، المجموعة ـ حتى طبيعتها؟

المعضلة ليست فقط في اختفاء الصوت، بل في تبخّر الرغبة في أن يكون هناك صوت أصلاً. لم تعد المشكلة في الرقابة أو القمع وحدهما، بل في رضى مريب بالصمت، في تعايش شبه طوعي مع الاختفاء. الإعلامي الذي كان يُهاجم بلا هوادة، بات يكتفي بإعادة تدوير ما يُقال له. المثقف الذي كان يكتب بحبر الخسارة والغضب، صار يكتب بما لا يوقظ أحداً. المعارض الذي كان يشعل المنابر، بات يجلس أمامها متفرجاً، أو ربما ممثلاً صامتاً في مسرحية طويلة بلا حوار.

والمدهش، أن هذه الفئات لم تفقد فقط قدرتها على الفعل، بل فقدت حتى صفاتها السلبية التي كانت تُؤخذ عليها. فالسُعار، ذلك الاضطراب الحاد في الدفاع، قد زال. الزعيق، ذلك الصوت المبالغ في ارتفاعه، تبخّر. حتى النباح، ذلك الذي كان يُزعج الجميع، اختفى. كأن الحياة قد سُلبت من هذه الكائنات دون مقاومة، دون حتى أن تلتفت لتودّع غرائزها.

أي ضربة تاريخية هذه التي تنزع عن “الكلب” صوته؟

وأي انهيار هذا الذي يحوّل الحارس إلى هيكل لا يحرّك ساكناً؟

صحيح أن النباح أحياناً كان مغرضاً، وكان كثيراً ما يصدر عن جهالة أو طموح شخصي. لكن هذا لا ينفي أنه كان عنصراً من عناصر توازن المشهد. فحتى الفوضى كانت تشير إلى خلل في النظام. وحتى الزعيق كان يفضح صمتاً أكبر. أما الآن، فالهدوء لم يعد راحة، بل صار كفناً مخملياً يُغطّي جسد الحقيقة الباردة.

الحياد بات شكلاً من أشكال الخيانة. و”عدم الانحياز” تحوّل إلى تواطؤ ناعم مع الاستسلام. لم يعد أحد يقول “لا”، لا لأن الجميع أصبح مقتنعاً، بل لأن “اللا” قد تآكلت من الداخل. ولم تعد هناك طاقة على الموقف، ولا حتى الرغبة في موقف.

هل نُفهم هذا التراجع على أنه تطوّر نحو النضج؟ أم أنه تقهقر نحو اللامبالاة؟

وهل نسمي هذا الخنوع “حكمة”؟ أم مجرد تعب جماعي يشبه الموت البطيء؟

المدن أيضاً تغيّرت. لم تعد الأرصفة تحمل الأقدام الثائرة، بل صارت ممرات لعابرين بلا أثر. الساحات التي كانت تحتضن المظاهرات، صارت بلا جمهور. حتى الجدران، تلك التي كانت تُدوّن حكايات الاعتراض بالكتابة والرسوم، صارت نظيفة أكثر مما يجب، كأنها تُطهّر نفسها من ذاكرتها.

في هذا الفراغ، تبدو الكلاب التي لا تنبح جزءاً من ديكور جديد، حيث كل شيء في مكانه، لكنه بلا روح. حتى المعمار بات يطرد الأصوات، ويصنع فراغات مصقولة لا تحتمل الضجيج. لم تعد هناك زوايا للاعتراض، ولا حواف للصراخ. كل شيء مستقيم ومطواع… حتى الغضب.

هل نسيت الكلاب كيف تنبح؟

أمام هذا المشهد، يبقى السؤال الأشدّ وجعاً:

هل ما زالت هذه الكلاب كلاباً؟

أم أنها فقدت كل ما يعرفها، فلم تعد سوى ظلالاً لما كانت عليه؟

هل غفوتها مؤقتة؟ هل ستستفيق من خدرها ذات لحظة وتعيد التذكير بأنها كانت حارساً؟ أم أن الذكرى وحدها هي ما تبقّى منها؟

ربما، في عمق هذا التساؤل، تختبئ أمنية. أمنية أن تستعيد الأشياء طبائعها، وأن يعود الصوت إلى حنجرته، والنباح إلى أصله. أن تعود الكلاب كلاباً، لا لأننا نحب سُعارها، بل لأن في نباحها حياة. لأن في اعتراضها دفاعاً. لأن في غريزتها ما يُعيد للمدينة وعيها. ما يُنذر بالخطر، ويحذّر من الانهيار، ويفتح الباب لاحتمال النجاة.

لكن إلى ذلك الحين، ستبقى الساحات صامتة، والمنابر خالية، والعيون مفتوحة بلا بريق، كأنها تنتظر من يُذكّرها بما كانت، وبما يمكن أن تكون.

فالخطر الأكبر، دائماً، لا يكون في أن تصرخ الكلاب أكثر من اللازم، بل أن تصمت حين لا يجوز لها الصمت.

25/6/2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى