المقال السياسي

في سوريا .. أين ذهبت ملايين الإعمار؟

عبد الكريم البليخ

في بلادٍ أنهكها الخراب، صار التبرع نوعاً من الصلاة، وورقةَ رجاءٍ يلوّح بها الناس في وجه القدر. كل مبلغٍ يُرسل، وكل ليرةٍ تُجمع، بدت كأنها محاولة خجولة لتضميد جرحٍ لا يندمل، وكأنها استغفارٌ جماعيٌّ عن عجزٍ طال أمده.

لكنّ الأرقام تكاثرت، والوعود تراكمت، ثم جاءت الأسئلة لتعلو فوق التصفيق:

أين ذهبت ملايين الدولارات التي جُمعت باسم “الإعمار في سوريا”؟

من قبضها؟ وكيف صُرفت؟ وهل كانت فعلاً طريقاً إلى الإصلاح، أم مجرّد طقسٍ آخر من طقوس التجميل في وجه المأساة؟

بين الأمل والريبة، يقف السوريّ متسائلاً أمام مشهدٍ تتنازعه النوايا والعواطف. فالإعمار ليس جدراناً تُرمّم، بل ضميراً يُعاد بناؤه، وثقةً تُستردّ من بين أنقاض الخيبة. وحين تضيع الشفافية، يصبح السؤال عن مصير المال سؤالاً عن مصير الوطن نفسه.

إنّ التبرع، مهما كان عظيماً، لا يكتمل دون صدقٍ يُنير الطريق إليه. فالإعمار الحقيقي لا يبدأ من الحجر، بل من الإنسان، من تلك اليد التي تعطي وهي مؤمنة أن ما تُقدّمه سيصل، لا أن يضيع في ظلال الغموض.

تقول تقديرات الخبراء إنّ تكلفة إعادة إعمار سوريا تتراوح بين 250 و400 مليار دولار، بينما ما زال أكثر من نصف السكان نازحين، و90% منهم يعيشون تحت خط الفقر، و16.7 مليون إنسان يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية، بحسب تقارير الأمم المتحدة.

في هذا المشهد المثقل بالألم، بدت حملات التبرع ومضات أملٍ صغيرة في ليلٍ طويل، لكنها سرعان ما اصطدمت بسؤالٍ أكثر صعوبة: من يضمن أن تصل هذه الومضات إلى حيث ينبغي أن تصل؟

من حمص بدأت الحكاية، وانتهت في ريف دمشق، مروراً بدرعا ودير الزور وإدلب، حيث توالت المبادرات وتزاحمت الشعارات. ففي ريف دمشق تخطّت حملة “ريفنا بيستاهل” كل التوقعات وجمعت 76 مليون دولار، قبل أن تأتي إدلب، بجرحها المفتوح، لتكتب الرقم الأكبر: 208 ملايين دولار تحت راية “الوفاء لإدلب”.

وهكذا، بلغ مجموع ما جُمِع نحو 351 مليون دولار ـ رقمٌ ضخم يليق بحجم الأمل… أو ربما بحجم الشك.

مدير عام الخدمات المصرفية في بنك “ستاندرد تشارترد”، نبال نجمة، قال إنّ هذه الحملات تُحدث أثراً اقتصادياً سريعاً، إذ تخلق فرص عملٍ فورية وتُعيد تشغيل بعض القطاعات الصغيرة. لكنها، في الوقت ذاته، تبقى ـ كما وصفها ـ “حالة عاطفية مؤقتة”، لا يمكن أن تحلّ محلّ سياسات التنمية المستدامة التي تُبنى على تخطيطٍ بعيد المدى ورؤيةٍ واضحة للمستقبل.

في الحقيقة، تبدو حملات التبرع أشبه بنوبات حنينٍ جماعي، تأتي فجأة مشحونة بالعاطفة، ثم تنطفئ حين تهدأ العاصفة الإعلامية. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أنها أنعشت في كثيرين شعوراً بأنّ الخير ما زال ممكنًا، وأنّ الناس ـ رغم كل شيء ـ لم يفقدوا قدرتهم على العطاء.

في “أربعاء حمص”، على سبيل المثال، جرى التركيز على تأهيل آبار المياه والمدارس وبعض المرافق الخدمية. كما أنشأ مجلس الأمناء لجان متابعة، بعضها لتوثيق التبرعات، وأخرى لمراقبة تنفيذ المشاريع، مع وعدٍ بإطلاق منصة إلكترونية تُعرض فيها التفاصيل بشفافية، رغم صعوبة التواصل مع بعض المتبرعين بسبب بياناتٍ غير دقيقة.

أما في إدلب، فقد جمعت حملة “الوفاء لإدلب” 208 ملايين دولار من وعودٍ وتعهدات. رئيس الحملة أكّد أنّها ستصدر تقرير شفافية يُظهر بدقة حجم الأموال التي جُمعت وقيمة المشاريع التي نُفّذت.

ومن بين كبار المتبرعين: رجل الأعمال غسان عبود بمبلغ 55 مليون دولار، وصندوق الأمم المتحدة الإنمائي بـ 14 مليوناً، والجمعية الطبية السورية الأمريكية (سامز) بـ 11 مليوناً، ورجل الأعمال أيمن الأصفري بـ 10 ملايين دولار.

تستهدف الحملة ترميم المدارس والمستشفيات والأفران والمساجد ووحدات المياه، في محافظةٍ دُمّر فيها أكثر من 1400 مبنى، و530 مسجداً، ومئات المنشآت التعليمية والطبية التي ما زالت تنتظر يداً تمتدّ إليها بالحياة.

وفي ريف دمشق، حيث الدمار أكثر حضوراً من الذاكرة، عقدت لجنة “المتابعة والشفافية” في حملة “ريفنا بيستاهل” اجتماعها الأول في الثاني من تشرين الأول، ناقشت خلاله آلية تنظيم قاعدة بيانات دقيقة للمتبرعين، وطالبت بإعداد تقريرٍ ماليٍّ موثّق يُنشر علناً فور الانتهاء منه، التزاماً بالوضوح والمسؤولية أمام الرأي العام.

وتركّز الحملة على إعادة إعمار الغوطة وداريا ومناطق القلمون والزبداني ومضايا، عبر مشاريع إسكانٍ وترميمٍ للبنية التحتية والخدمات العامة.

كل هذا يبدو جميلاً على الورق، مؤثراً في الأرقام، منعشاً في التصريحات.

لكنّ الناس ـ أولئك الذين ما زالوا يسكنون الخيام أو ينتظرون سقفاً يعود فوق رؤوسهم ـ لا يُطعمهم الأمل وحده. إنهم يريدون أن يروا الطريق الذي تسلكه الأموال، أن يلمسوا أثرها في قراهم ومدنهم، لا في التقارير الصحفية أو المؤتمرات المصوّرة.

لقد تعلّم السوريون، بعد سنواتٍ طويلة من الخيبات، أن الأرقام لا تبني وطناً، وأنّ الشعارات لا تُرمّم بيتاً. لذلك يتساءلون اليوم، لا من باب الاتهام بل من باب الوجع:

هل حقاً وصلت التبرعات إلى أصحابها؟

هل أُنفقت كما وُعد؟

هل تحوّل الحلم إلى لبنةٍ في جدارٍ مهدّم؟

أم ما زالت الأموال تنتظر من يحوّلها إلى فعلٍ حقيقيٍّ على الأرض؟

ليست القضية فقط عن مصير ملايين الدولارات، بل عن مصير الثقة نفسها ـ تلك الثقة التي إن تهشّمت، لا تبنيها الملايين، بل تُعيدها الشفافية والصدق والمحاسبة.

وربما آن الأوان لأن نعيد النظر في معنى “الإعمار” ذاته؛ فالإعمار لا يكون بالحجر وحده، بل بالضمير الذي يضع كل دولارٍ في مكانه الصحيح، احتراماً لمن تبرّع، ولمن ينتظر أن يعود إلى بيته بكرامةٍ وطمأنينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى