كلمة حقمدونات

قليل من الشوق

عبد الكريم البليخ

هل ما زال فينا شوقٌ حقيقيّ يربطنا، نحن المغتربين الذين أمضينا سنواتٍ طويلةً من أعمارنا في الغربة، بالأهل والأصدقاء والديار؟

أخشى أنَّ الشوق لم يعد ذاك الذي كان يَخفُق في الصدور كما كان من قبل، حين كان اللقاء حلماً مؤجلاً، والرسالة البريدية تنتظر أسابيع لتصل، وتحمل في طيّاتها عبق اليد التي كتبتها. اليوم تغيّر كل شيء. صار التواصل ميسّراً حدّ الابتذال، وصارت المسافات تتلاشى بضغطة زرّ، حتى ذابت حرارة الانتظار في برد التكنولوجيا.

لقد اجتاحت حياتنا وسائل التواصل الحديثة: فيسبوك، تويتر، إنستغرام، تيك توك، واتساب… وأصبح الإنسان يعتمد عليها اعتماداً شبه مطلق، حتى غدت جزءاً لا يتجزأ من برنامجه اليومي، تُخبره عن الآخرين، وتُشعره أنه قريب منهم، دون أن يقترب حقاً.

لقد قرّبت هذه الوسائل المسافات، لكنها سَرقَت دفء العلاقة، وجرّدت الشوق من معناه، حتى باتت الأمّ ترى ابنها كل يوم على الشاشة، فلا يوجعها غيابه كما كانت تفعل رسالة غائبة أو مكالمة متأخرة.

تراخت المراحل، وزالت السدود، وانكمشت المسافات حتى فقدت قيمتها. صارت الفجوة بين القريب والبعيد عادية، بل عادية جداً.

العلاقات التي كانت تتقد بالانتظار والاشتياق، وتُغذّيها المسافة، أصبحت باهتة، باردة، بلا مفاجآت. لم يَعد الحبّ بين أفراد الأسرة، أو بين الأصدقاء، ذاك الشعور الدافئ الذي يملأ المسافات ويغسل الروح بالحنين. صارت الكلمات تُقال على عجل عبر شاشة، وتُنسى بعد لحظة، وصار «كيف حالك؟» مجرد واجبٍ رقميّ لا يحمل دلالته القديمة.

لقد ألغت مواقع التواصل ـ على كثرتها ـ الكثير من أواصر المحبّة والشوق، وأفرغت العلاقات من مضمونها الإنساني العميق.

لم يعد الصوت الداخلي فينا يئنّ طالباً عودة الماضي الأليف، ولم تعد القلوب تهفو كما كانت إلى أحضان الأهل، أولئك الذين كانوا عنوان المودة ودفء الحياة.

صار البعد عنهم عادياً، كأن الغربة لم تعد تُوجِع، بل تحوّلت إلى نمط حياة. غاب صوت الحنين الذي كان يوقظنا في الليالي الباردة، وصار السؤال عنهم عادةً مؤجلة، لا واجباً من القلب.

لقد سهّل التواصل عبر الهاتف المحمول اللقاءات، لكنه في الوقت نفسه خفّف حرارة الشوق، وأطفأ لهيب الانتظار. قطع الإنسان شوطاً طويلاً نحو البرود العاطفي في ظل هذه الوفرة من الاتصال الافتراضي. صار يرى أهله وأصدقاءه كل يوم على الشاشات، فيكتفي بالصورة عن اللقاء، وبالصوت عن العناق. وهكذا تراجع طابع الاشتياق شيئاً فشيئاً، حتى كاد يختفي.

ومن خلال تجاربي وملاحظاتي، وجدت أن هذا الفتور العاطفي يختلف من جيل إلى آخر.

فالشباب غير المتزوجين ما زالوا ـ إلى حد ما ـ أكثر إحساساً بالحنين، لأنهم يعيشون الغربة في أوجها، ويتوقون إلى دفء الأسرة وإلى السؤال الصادق. أما المتزوجون، فقد غلبت عليهم مشاغل الحياة ومسؤوليات الأسرة، فضعف عندهم الحنين، وصار الانشغال بالزوجة والأبناء يطغى على مشاعر الشوق الأولى.

وفي المقابل، نرى الأهل أيضاً وقد بدّلوا أولوياتهم. انشغلوا بتربية الأبناء وتأمين لقمة العيش، وصار الاهتمام منصباً على تفاصيل الحياة اليومية أكثر من الاهتمام بأبنائهم المغتربين.

لقد روى لنا كثير من أولياء الأمور ـ في الولايات المتحدة أو في دول الاتحاد الأوروبي ـ كيف انقلبت العلاقة مع أبنائهم المهاجرين إلى تواصلٍ رسميٍّ جافّ، لا دفء فيه إلا ما تبقّى من عادة السؤال. إنهم يحبّون أبناءهم بلا شك، لكن التعب أنهكهم، والمسافات الطويلة جرّدت العواطف من دفئها الأول.

ومع مرور الزمن، بدأنا نرى المال يحلّ محلّ العاطفة، ويصبح معياراً جديداً للمحبّة. كأننا انتقلنا من مرحلة «أشتاق إليك» إلى مرحلة «كم سترسل؟».

صار المال عربون المحبّة، والرابط الحقيقي الذي يزيد أو يقلل من حرارة المشاعر. باتت العواطف في كثير من الأحيان مجرّد أكذوبة، كلمات بلا روح، وتظاهراً بالاهتمام يخفي وراءه غاية مادية.

ولستُ أقول إن جميع الناس سواء، فهناك من لا يزالون مخلصين في مشاعرهم، لا يرون في المال سوى وسيلةٍ لا تُقاس بها المحبة. هؤلاء وحدهم من يحافظون على وهج العلاقات القديمة، حيث الحنين صادق، والاشتياق حقيقي، والحبّ لا ينتظر مكافأة.

أما الآخرون، فقد تلاشت عندهم المشاعر حتى صار اللقاء محكوماً بالمنفعة، والاتصال مشروطاً بالحاجة.

لقد ماتت العلاقة الحميمية بين الأهل والأبناء في كثير من البيوت، أو على الأقل أصابها الجفاف. لم تعد الكلمات تُشعل الدفء، ولا الزيارة تُبهج القلب كما كانت.

العودة إلى الحياة القديمة، إلى صدق المشاعر وبساطتها، لا تبدو ممكنة إلا حين يتخلى الناس عن عبادة المادة، ويعيدوا إلى القلوب وظيفتها الأصلية: أن تحب بلا مقابل.

أصبح المال هو اللغة التي نفهم بها مشاعر بعضنا. حين ترسل مالاً، تتفتح أمامك الأبواب، وتنهال عليك كلمات الشوق والاهتمام. أما إذا انقطع العطاء، انقطعت معه المودة، وبدأت الأعذار تتوالى: “كنا مشغولين”، “العمل كثير”، “الظروف صعبة”…

وإذا ما أرسلت مبلغاً صغيراً، وجدت المديح يفيض، والاهتمام يتجدّد، وربّما يَطلبون المزيد بحجّة ضائقة مالية، أو حاجة علاج، أو إيجار متأخر، لتبدأ سلسلة المطالب التي لا تنتهي!.

لقد أصبحت المشاعر تُدار كصفقات صغيرة في سوق العلاقات. يبتسم لك من يراك قادراً على المساعدة، ويغيب عنك من لا يرى فيك فائدة. حتى الحبّ، ذلك المعنى الكبير الذي كان يسكن القلوب، صار يُقاس بما تملك لا بما تشعر.

وهكذا غدت الغربة ليست في البعد الجغرافي، بل في الفقد العاطفي. فالمغترب اليوم لا يعيش غربة المكان، بل غربة الإحساس. يعيش بين الناس لكنه لا يلتقي أحداً، يشارك الجميع تفاصيله اليومية عبر الصور والمنشورات، لكنه ينام وحيداً في أعماقه.

لم يعد الشوق جسراً نحو اللقاء، بل صار مجرد ذكرى عن زمنٍ كانت فيه المسافة تُولّد المحبّة، وكان الغياب يُنبت الودّ. أما الآن، فقد صار الحضور الدائم في حياتنا عبر الشاشات حضوراً بلا روح.

قليل من الشوق… هذا ما تبقّى لنا.

قليل من الحنين في زوايا القلب، نقاوم به هذا الزحف الإلكتروني على أرواحنا.

ولعلّ ما نحتاجه اليوم ليس اتصالاً جديداً على الهاتف، بل اتصالاً أعمق مع ذواتنا، مع جذورنا الأولى، مع المعنى الإنساني الذي فقدناه وسط هذا الضجيج.

فربما يعيدنا هذا القليل من الشوق إلى أنفسنا، وإلى إنسانيتنا التي نسيناها في زحمة الضوء البارد للشاشات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى