قناة “الإخبارية”.. عودةٌ باردة إلى واجهةٍ لم تغب

عبد الكريم البليخ
في الخامسة من مساء يوم الاثنين الماضي، في يوم غير اعتيادي، أُعلن عن ولادة جديدة لقناة “الإخبارية”. توقيتٌ حمل رمزية البدايات، وأجواءٌ رسمت إطاراً لحظةٌ كان يُفترض أن تكون مفصلية في تاريخ الإعلام المحلي. لكن ما إن انطلقت الشاشة حتى تسلّل شعورٌ خافت إلى القلوب: ليس ثمة ولادة… بل مجرد استئناف.
كم نحن متعبون من الولادات الشكلية، ومن القوالب الجديدة التي تخفي وراءها مضموناً قديماً أنهكه الاجترار. فالقضية لم تكن يوماً في لون الشعار أو زاوية الكاميرا، بل في تلك الروح التي تسكن الشاشة أو تغيب عنها، في الصوت الذي يحدثك كأنك حاضر، لا كأنك غائب يجدر تلقينه.
كان يمكن لهذا الإطلاق أن يكون لحظة أمل، استعادة لموقع فقده الإعلام الرسمي طويلاً، حين ابتعد عن الناس لا في مواقفه، بل في نبرته، في طريقته في الإنصات قبل الكلام، في قدرته على فهم أن المجتمع لم يَعد ذاك الذي يكتفي بالنشرة، بل ذاك الذي يريد أن يرى نفسه، أن يسمع صوته، أن يشعر أن المذيع لا ينقل له الحدث فقط، بل يفهمه معه.
لكن ما حدث، كما لاحظه كثيرون، لم يتجاوز رتوشاً سطحية، إصلاحاً تقنياً من دون مراجعة فكرية. المشهد بدا وكأنه محاولة تجميل لمرآة متصدعة. أما التبريرات التي طفت على السطح، سواء في تصريحات المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون علاء برسيلو، أو في كلمات مدير القناة، فقد جاءت كأنها تشرح الفشل قبل أن تفسّر الرؤية، وكأن المشروع وُلد تحت عبء الخوف من ألا يكون على قدر التوقع.
وهنا، لا بد من طرح سؤال أعمق من مجرد “هل تغيّر شكل القناة؟” إلى “من تخاطب هذه القناة؟”. فالإعلام لا يُبنى بالميكروفونات والكاميرات فقط، بل بفهم المزاج العام، بالإصغاء لنبض الشارع، بالشعور بالمسؤولية لا كواجب إداري، بل كأمانة ثقافية.
إننا نعيش في عصر لم يعد فيه الجمهور أسيراً للشاشة، بل صار صانعاً لروايته، باحثاً عن صورته في كل ما يُعرض عليه. وإذا غابت هذه الصورة، غاب المعنى. ولهذا، فإن قناة “الإخبارية” ـ رغم ما بُذل فيها من تعب وجهد ـ لم تمسّ تلك المنطقة العميقة في وجدان المشاهد، المنطقة التي تحتاج إلى خطاب يُلامس القلق الاجتماعي، ويروي الحكاية اليومية للناس، لا مجرّد نسخٍ لبيانات وتصريحات.
وفي العمق، فإن المسألة لم تعد تتعلق فقط بالمحتوى، بل بهوية المؤسسات الإعلامية ذاتها: من نحن؟ ماذا نريد أن نقول؟ ولمن؟ وما علاقتنا بالناس؟ كيف نحاور جمهوراً غيّرته الحرب، وصقلته التجربة، ولم يعد يقبل إلا بمن يخاطبه بصدق ويعامله كندٍّ لا كمتلقٍ صامت.
قد لا يكون الأمل قد مات، لكنه بالتأكيد خرج من الاستوديوهات منتظراً عند الباب. ينتظر من يقول له الحقيقة، من يمنحه إعلاماً فيه مسافة للشك، ومساحة للأسئلة، ولغة تليق بالزمن السوري الذي يعيش على حدّ الخطر والحنين في آن.
ربما تنجح القناة لاحقاً، فالبدايات دوماً مرتبكة، وقد يكون في هذا الخطأ فرصة للمراجعة، لكن ذلك لن يحدث ما لم تُعد صياغة الفكرة من جذورها: ليس كيف نُعيد إطلاق القناة، بل لماذا؟ ومن أجل من؟ وفي أي سياق وطني واجتماعي وثقافي يجب أن تتحرك؟
فللمشاهد ذاكرة، وللشاشة عهدٌ قديم لم يُوفَ بعد. وذاك العهد، هو أن تكون صوته حين لا يجدُ من يصغي، وعينه حين تضل الحقيقة الطريق، وضميره حين تختلط الأوراق.
7/5/2025