Site icon المزمار الجديد

مسافرين بلا عودة

عيسى الشيخ حسن

حين تُرَنِّم بدلاً من ياس خضر: “مسافرين”؛ فهذا يعني أنّ خيل الحنين ترمَح في برارٍ بعيدة. “مساااا / فري ي ي/ ن” الياء هي التي تضبط إيقاع الحزن، الياء الممتدّة قليلاً، جواباً لشهقة الألف الدافئة، الخاوية. ولكن حين تنوب عن “حبّابتك” لتستعيد عبارتها الأثيرة: “واال عيسي شلونك” فحينذاك تكون الخيل قد ارتدت أجنحة. يحدث هذا في الأساطير، وفي سفر السوريين وقد حطّت بهم المراكب كلّ جهة.

.

حين تناديني حبّابتي “عيسي” فإنّها تكون قد استباحت جميع تحصيناتي، هكذا.. تمسح رأسي، ثم تثبّت عينيها في عينيّ، وتقول عبارتها.. وبعد أن تسمع تطميناتي، تكذّبها وتهزّ رأسها وتقول: “والله ما انت زين”، فأضحك، ولكنّي أكون قد سقطت تماماً كمدينةٍ فاجأها الغزو. ولكنّ غزو حبّابتي مؤقت، فسرعان ما تتركني للشاي، وقد تعرض عليّ لبناً بارداً، أو فطوراً خاصّاً.

.

ولكن ما الذي فعلته “عيسي” الياء التي لن تفلح في قراءتها إلّا إذا استعنت بـ “إكسانات الفرنسية” عيسـ é، التي تمتدّ أحياناً. تحذف حبّابتي ألف عيسى، وتكسر جدار اسمي المعتلّ، وتدخل من “اللّبِنَة الخفيضة الحنونة”. ماذا لو كنت في أيّام أجدادنا الأوائل، ونادتني حبّابتي، التي ستكون يومها جدّتي: عيساي، دون أن تخوض في معركة الصرف.

.

كنت حفيدها الأوّل، ولكنّي لم أدرك الحبّابة الشابّة، بل أدركت الحبّابة القويّة. لم تكن جدّتي زاهدة في الحياة، ولكنّها كانت زاهدة في مباهج الحياة، منذ أن أدركت بوعيها “الشقيّ” أنّها من دون أخ في الحياة. لم تكن عينها “مكسورة” بل كان قلبها كسيراً. جمعت بين الحزن والحزم، في انسجامٍ عجيب.

.

حين أزورها بعد غياب، تنظر إليّ، وتقول كلاماً يضيع في غمغمة البكاء، شيئاً من “نعّاوةٍ” قديمة، أو عبارةً عاديّة حولتها عيناها إلى قصيدة قصيرة تحوك معانيها بين شاعرٍ مقلٍّ، ومتلقٍّ وحيد، يقرأ الوجه الذي أدمن الحزن، الحزن الصافي، الحزن غير المغشوش.

.

تكون “مسافرين” قد استنفدت شجاها بين الكلمات، واللحن المجروح، وصوت “ياس” هذا الآتي من تراجيديا “ثقيلة”. لم تكن التغريبة العراقيّة وقتها قد دارت دورتها، كانت أيّام الثمانينات الغارقة بنواح عراقيّ شجيّ، استمرأناه نحن هناك وحينذاك، ووجدنا فيه شيئًا منّا. كانت “نعّاوات” حداثيّة، أكملت دورة الحزن التي بدأتها “حبّابتي”. نعّاوات لم تنتظر الكارثة، بل استبصرتها، وحين انفتحت الجهات، تكفل للهاربين نجاةً مؤقتة، كنّا في حاجة إلى “مسافرين”، ولكنّ المغنّي بلغ أرذل العمر، حين صارت الكارثة: “عزبة”.

Exit mobile version