مهرجان كان وتكريم الكبار

إلى جانب الجوائز التي يمنحها سنوياً والأفلام التي يعرضها وتحظى بعده بشهرة عالمية واسعة، يلفت مهرجان كان الانتباه كل عام إلى السعفة الذهبية الفخرية، الجائزة التي يمنحها سنوياً لممثلين وصانعي سينما تثميناً لمسيرتهم الفنية وتذكيراً بأهم أعمالهم ومواضيعها وكيف كانت لمستهم فارقة في تطوير الفن السابع.
تفاجأ الممثل الأميركي المخضرم دينزل واشنطن لحظة وصوله إلى مهرجان كان لحضور العرض الأول لفيمله “هايست تو لويست” للمخرج سبايك لي بمنحه السعفة الذهبية الفخرية قبل بدء عرض الفيلم، وقد قدمها له مدير المهرجان تيري فريمو ومخرج الفيلم سبايك لي.والفيلم ينتمي إلى نوع التشويق والجريمة والإثارة ونصه مقتبس من فيلم “هاي آند لو” للمخرج الياباني الكبير أكيرا كيروساوا، أنجزه في ستينات القرن الماضي. وكانت هذه السعفة هي الثانية التي تمنح في دورة هذا العام من المهرجان لممثل أميركي في سابقة فريدة من نوعها، حيث منحت في بداية المهرجان للممثل روبرت دي نيرو عن مسيرته السينمائية المميزة والحافلة ليفاجأ المهرجان جمهوره الاثنين بمنحها لواشنطن أيضا.

المهرجان منح السعفة الفخرية لروبرت دي نيرو عن مسيرته الفنية التي امتدت منذ سبعينات القرن الماضي حتى الآن
دينزل واشنطن صاحب مسيرة مهنية مميزة، وهو حاصل على جائزتي أوسكار سابقا، أولاهما في عام 1990 عن دوره في فيلم “غلوري” والثانية عام 2002 عن دوره في فيلم “ترينينغ داي”، وكان آخر فيلم قدمه واشنطن هو “المصارع 2” في عام 2024 تحت إدارة المخرج الكبير ريدلي سكوت. وقد أدى عبر مسيرته السينمائية أدوارا لا تنسى كدوره في فيلم “مالكوم إكس” حيث لعب دور مالكوم إكس الناشط الحقوقي الأسود، ودوره في فيلم “فلايت” حيث أدى دور الطيار المدمن الذي ينقذ طائرة مدنية من السقوط. وأخرج في عام 2007 فيلم “ذاغريت دبيترز”، ومن أشهر أفلامه “المجد” عام 1989 و”ديجا فو” عام 2007.
وقد عودنا مهرجان كان السينمائي الفرنسي العريق في كل دورة من دوراته، التي تنعقد في شهر مايو من كل عام، على تضمنه أحداثا مميزة تتعلق بتاريخ السينما ورموزها، ففي العام الماضي في دورته السابعة والسبعين كان الحدث الأبرز فيه هو مشاركة كبار مخرجي هوليوود الجديدة كفرنسيس فورد كوبولا وجورج لوكاس وبول شرايدر بأفلام صنعوها حديثا، وهم الذين صنعوا مجد هوليوود في سبعينات القرن الماضي بأفلامهم التي خلدها التاريخ كـ”العراب” و”حرب النجوم” بأجزائهما، كما منح السعفة الذهبية الفخرية في تلك الدورة للممثلة ميريل ستريب جميلة هوليوود التي أدت أدوار بطولات أجمل الأفلام مثل “خارج أفريقيا” و”جسور مقاطعة ماديسون” و”بيت الأرواح”، وكان تكريمها هو الحدث الثاني الأبرز في الدورة الماضية.
أما في هذا العام فقد قرر المهرجان منح السعفة الذهبية الفخرية للممثل الأميركي القدير روبرت دي نيرو عن مسيرته الفنية التي امتدت منذ سبعينات القرن الماضي حتى الآن؛ حيث قدم خلال هذه العقود الخمسة من سنوات حياته أفلاما سينمائية لا تنسى تحت إدارة كبار مخرجي هوليوود الجديدة من فرنسيس فورد كوبولا إلى مارتن سكورسيزي -الشريك الدائم له- وسيرجيو ليوني وبراين دوبالما ومايكل شيمينو، فكان كل دور يؤديه يضيف قيمة فنية كبرى إلى الفن السينمائي وهو الذي حاز فيلمه “سائق التاكسي” عام 1976 على سعفة كان الذهبية، كما تحصل قبله على أوسكار أفضل ممثل مساعد عن دوره في الجزء الثاني من فيلم “العراب” فرنسيس فورد كوبولا، الذي أدى في الفيلم دور فيتو كورليوني في شبابه، ذاك الشاب الإيطالي الصقلي الذي سيصبح يوما ما أكبر رئيس عصابة في نيويورك خلال أربعينات القرن الماضي.
كما ترشح دينيرو لجوائز أوسكار كثيرة عن مجمل أدواره التي أداها مع مارتن سكورسيزي عرابه الوفي والذي قدم معه أجمل أفلامه التي بدأها بـ”سائق التاكسي” ثم “الثور الهائج” اللذين أطلقا شهرته وأظهرا موهبته. واستمرت مسيرته مع سكوسيزي حتى عام 2019 حين قدم معه فيلم “الأيرلندي” بمشاركة آل باتشينو.
ورغم ذلك لا تلغي أفلامه مع سكورسيزي أهمية أعماله مع باقي المخرجين كفيلم “حدث ذات مرة في أميركا” للمخرج سيرجيو ليوني وفيلم “صائد الغزلان” مع مايكل شيمينو وأفلامه مع براين دوبالما. ولا ننسى أنه حين أراد الوقوف خلف الكاميرا والتوجه للإخراج أنجز فيلما من روائع الأفلام وهو “قصة برونكس” الذي أظهره كمخرج محترف كاحترافه التمثيل. وقد ارتأى القائمون على مهرجان كان أنه قد حان الوقت لمنحه السعفة الذهبية الفخرية عن هذه المسيرة الحافلة بالتنوع والتي لا تنضب.
كان هذا الحدث الأول الذي ميز نسخة هذا العام من المهرجان، أما الحدث الثاني فهو اختيار لقطة من فيلم “رجل وامرأة” عام 1966 للمخرج الفرنسي كلود ليلوش لتكون شعار ملصق المهرجان لهذا العام في احتفاء واضح بهذا الفيلم الذي لن تنساه الأجيال على مر الزمان.
هذا الفيلم المتحصل على السعفة الذهبية للمهرجان وعلى أوسكار أفضل فيلم أجنبي كان اختياره كتحية لكلود ليلوش ولفيلمه الذي لا ينسى والذي يروي قصة الحب الجميلة بين آن غوتيه (أنوك إيمي) وجان لويس (جان لوي تريتيان) حيث تعمل الأولى كاتبة سيناريو والثاني سائق سيارات سباق وكلاهما أرمل، يتعرفان على بعضهما البعض على شاطئ مدينة دوفيل الفرنسية في أحد أيام الأحد خلال مشاهدتهما فعاليات رياضية يشارك فيها أبناؤهما وتبدأ العلاقة بينهما والتعارف ثم تتطور إلى صداقة ثم إلى حب لاحقا، لكن ماضيهما يبقى يلاحقهما وخصوصا آن فتقرر هجر جان لويس والعودة إلى باريس لكن سرعان ما يعيدها الشوق إلى دوفيل كي تلقاه.
وقد اختار المهرجان من الفيلم لقطات العناق الشهيرة على الشاطئ، وشكلت موسيقى الفيلم التصويرية آنذاك إلهاما لجيل بأكمله حيث بيعت ملايين النسخ من الأسطوانات وأصبحت سيارة الفورد موستينغ التي يقودها بطل الفيلم جان لويس سيارة شباب عصره فتحول إلى فيلم أيقوني عن الحب تمر عليه كل الأجيال اللاحقة، فما كان من مهرجان كان إلا أن وجه رسالة حب وتقدير للفيلم ومخرجه عبر هذا الاختيار.
كان هذان الحدثان اللذان ذكرناهما سابقا هما خاصية هذه النسخة المميزة من المهرجان هذا العام والذي بدأت عروض الأفلام فيه منذ أيام ليأتي الحدث الثالث المفاجئ؛ تكريم دينزل واشنطن ومنحه السعفة الذهبية الفخرية، لتكون بذلك هذه الدورة دورة استثنائية بكل المقاييس.
وتشارك في المهرجان أفلام من مختلف دول العالم ضمن فعاليات وبرامج يتميز بها كان عن باقي المهرجانات الأوربية، ورغم أن بعض النقاد يؤاخذونه في بعض الأحيان على انحيازه لأيديولوجيات سياسية معينة لكنه يبقى من أهم المهرجانات السينمائية في تاريخ السينما حيث أن كبار مخرجي العالم بدأوا شهرتهم حين شاركوا فيه بأفلامهم الأولى، وقد عبرت مسيرته الحافلة أسماء مخرجين صنعت تاريخ السينما الجميل.