على الملأ

موسم بلا حصاد

عبد الكريم البليخ

بين سنابل لم تكتمل، وأرض أضناها العطش، يقف القمح السوري على حافة الانقراض الموسمي، بعدما كان يوماً رمز الاكتفاء وكرامة المائدة. مشهد يشي بانحدار طويل تتقاذفه أزمات المناخ والحرب والاقتصاد، فيما تتزاحم سلطتان في شمال البلاد وجنوبها على فتات المحصول، كمن يتنازع على ظل شجرة يابسة.

في بلد أثقله الصراع وتغيرت فيه ملامح المواسم، لم يعد المطر موعداً ولا الأرض وعداً. فقد اجتاح الجفاف هذا العام مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في سوريا، وألحق ضرراً بما يقارب 2.5 مليون هكتار من القمح، وفق تقديرات منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، ما أدى إلى تقلص إنتاج القمح البعل بنسبة تصل إلى 95%، وتراجع القمح المروي بنسبة 30 إلى 40%.

تسعين بالمئة من الأمطار المنتظرة لم تهطل. الريف الذي كان يرقد على جدول صغير، بات يحفر أعماق الأرض بحثاً عن قطرة. مزارعو عامودا مثلاً، اضطروا لإنزال المضخات إلى عمق تجاوز 160 متراً، في محاولة يائسة لري أرض أبت أن تُنبت. سقيٌ متواصل، وإنهاك مالي، لكن الحصاد جاء ضئيلاً، شحيحاً في الطول والحبة والمردود.

هذه الكارثة المناخية ـ والتي تصفها “الفاو” بأنها الأسوأ منذ ستة عقود ـ تنذر بفجوة تُقدّر بنحو 2.7 مليون طن في الإنتاج المحلي، ما يهدد أكثر من 16 مليون سوري بانعدام الأمن الغذائي، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية خانقة، وانهيار في العملة، وندرة في السلع الأساسية.

على وقع هذا الجفاف، تتصاعد المنافسة بين الحكومة السورية والإدارة الذاتية الكردية في الشمال الشرقي، لاستمالة المزارعين وتحصيل القمح. كل طرف يلوّح بسعر أعلى ومكافآت تشجيعية، في محاولة لتعويض الفاقد بالممكن، رغم أن الواقع لا يمنح إلا القليل.

حددت الحكومة السورية سعر طن القمح بنحو 290 إلى 320 دولاراً، وأعلنت عن مكافأة إضافية بقيمة 130 دولاراً، فيما رفعت الإدارة الذاتية السعر إلى 420 دولاراً شاملاً دعماً مباشراً. لكنها أسعار على الورق، لا تلغي معاناة الفلاحين الذين يرزحون تحت أثقال نقص الوقود والأسمدة وارتفاع تكاليف البذور، وسط غياب حقيقي لخطط إنقاذية.

قبل الحرب، كانت سوريا تفيض قمحاً، بإنتاج سنوي يصل إلى 4.1 مليون طن. اليوم، لم تعد البلاد قادرة حتى على تحقيق جزء بسيط من الاكتفاء الذاتي، ما يدفعها مجدداً إلى الاستيراد – غالباً من روسيا ـ لإنقاذ رغيف الخبز.

ومع تزايد الاعتماد على الواردات، وصلت مؤخراً بواخر قمح إلى مرافئ البلاد، بينما أعلن العراق عن إرسال 220 ألف طن كمنحة عاجلة. لكن هذه المعالجات الطارئة لا تبدد القلق العميق لدى مزارعين يرون مستقبلهم يغور في باطن الأرض، كما غارت مياههم.

“لن نستطيع الاستمرار”، يقول أحدهم بمرارة. “نحرث المجهول، ولا بديل عن هذه الأرض سوى الجوع”.

في بلد أنهكته الحرب، يتحوّل القمح من محصول إلى معركة وجود، ومن غلة موسمية إلى خط دفاع أخير عن البقاء.

28/6/2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى