نبض الشارع

“نبض الشارع”، زاوية تنبض بالهمّ الإنساني، تُعرّي القبح، وتستدعي الجمال، وتدعو القارئ إلى إصلاح الداخل قبل الخارج، لأن “نبض الشارع” هو نبض الضمير، ونبض الحياة حين تُمسّ حقيقتها في الصميم.
“المزمار العربي”
يكتبها
رئيس التحرير ـ عبد الكريم البليخ

في كل عامٍ كنتُ أسمح لنفسي بزيارة لبنان، كمن يعود إلى ذاكرةٍ محفورةٍ في القلب، لا لأن الأرض أكثر خضرة أو البحر أشدُّ زرقة، بل لأن الجمال هناك كان وعداُ خفيّاُ بالطمأنينة. في لبنان تتصالح الجبال مع الضوء، ويتدلّى البحر كبساطٍ من زرقةٍ لا تنتهي. كنتُ أرى في شروق شمسها حريراُ ذهبيّاُ يتراقص على صفحة الماء، وأشهد أبدع ما صنعته يد الإنسان من عمارٍ وذوقٍ وأناقة: سان جورج، الفينيسيا، الحمراء، الروشة، وساحة الشهداء. زوارق البحر تتهادى كأغانٍ قديمة، والياسمين الذي يهديه اللبنانيون لزوّارهم يُشبه قلوبهم البيضاء.
لكنني اليوم، حين أطلُّ من النافذة ذاتها، أرى المشهد مقلوباُ. أرى المجازر، أرى لبنان يتخلى عن جماله فيتخلى الجمال عنه. أرى التفكك ينخر الروابط، والضوابط تتهاوى، والقلوب التي كانت مؤتلفة تتباعد كأوراقٍ في ريحٍ عاتية. أرى تهريب المحروقات والخبز والدواء، وأسمع أنين العجز عن ضبط سعر الدولار الذي يرتفع كل صباح كأنّه لهيب يأكل ما تبقّى من صبر الناس. التضخم يخنق العائلات؛ نفقات، أقساط، علاج، إيجارات، وضرائب تتضاعف، وحكومة مؤجّلة كفكرةٍ لم تولد بعد.
رأيت الأطفال يموتون من الذعر، والآباء يسقطون برغيف الخبز في أيديهم، والعمارات الشاهقة تنهار في أنهار الدم. رأيت الخضرة تحمرّ، والبحر يكتسي لون الغروب الأبدي. هذا هو لبنان اليوم: بلدٌ كان جميلاً، صار مشوّه الوجه، مطفأ العينين، غريب الابتسامة.
**
وهناك وجوهٌ أخرى، بشرية الملامح لكنها لا تشبه الإنسان. وجوهٌ تختبئ خلف أقنعة الزيف، تتزيّن بالثقافة وتخفي الحقد. تحركها الغيرة، تعيش بالكراهية، وتغتذي من أوجاع الآخرين. لو صعدت على ظهور الخيل باغتتك بخنجرٍ غادر، لا لشيء إلا لأنها لا تحتمل نور غيرها. تراها تصطادك بنبالٍ من ضغينة، لا لتكسب، بل لأن الحقد غذاؤها اليومي.
من أين جاء هؤلاء؟ أي تربةٍ أنبتتهم؟ وأي ظلمةٍ رعت فيهم هذا العمى؟ غرباء يعيشون بيننا، يملكون المظاهر ويخسرون الجوهر. والأسوأ أنّ كثيرين منهم نالوا الأوسمة والمناصب، وتوّجهم الزمن على حساب الصادقين. نجاحهم كذبةٌ أنيقة، يملكون الضجيج ويفتقرون إلى المعنى. تراهم متغطرسين، ينسون أن الكبر لا يمنح الاحترام، وأنّ التعالي لا يورث الهيبة. يعيشون في حاضرٍ زائفٍ، ويتركون خلفهم خراباُ لا يرونه، كأنّ العمى قد استوطن قلوبهم.
**
وفي زاويةٍ أخرى من الروح، يطلّ سؤال: أين يكمن جوهر الحب الصادق بين الرجل والمرأة؟ متى تتحوّل العلاقة إلى ضرورةٍ وجوديةٍ لا غنى عنها؟ وكيف تتجلّى تلك اللحظة التي يلتقيان فيها بعيداً عن ضجيج الحياة وضغوطها؟
متى تصبح الزوجة، بثقتها وإيمانها، قادرةً على تلبية حاجات زوجها بمحبةٍ خالصةٍ، ويغدو الزوج قدوةً في بيته ومجتمعه لأنه يحضر بلا ادّعاء ويعطي بلا منّة؟ إنها أسئلة القلب حين يبحث عن المعنى الحقيقي للعلاقة الإنسانية التي تتجاوز الجسد إلى الروح، والواجب إلى الرغبة في البقاء المشترك.
الحبّ ليس عاطفةً عابرةً، بل موقفٌ دائم من الفهم والتسامح والتضحية. الصراحة والصدق هما أساسه؛ فحين نكذب على أنفسنا نكذب على الآخر، وحين نُخادع نُطفئ النور الذي يُنير العلاقة. البداية الحقيقية أن تكون صادقاً مع نفسك، حينها يصبح الإشباع الروحي هو الغاية، والاستمرارية ثمرةً طبيعيةً لهذا النقاء.
عندها تتحول الحياة الزوجية إلى دفءٍ عميقٍ لا يعرف الادّعاء، ويغدو البيت مأوى للحبّ لا ساحةً للمقاومة. الحبّ، كما يراه الكاتب، هو أرقى أنواع الشجاعة، لأنه يمنح الإنسان القدرة على التسامح وعلى البدء من جديد كل يوم.
**
ثم ينتقل الحديث إلى عالمٍ آخر، عالم الرياضيين. فالرياضة لا تصنع الأجساد فحسب، بل تُهذّب النفوس وتصقل الإرادة. الرياضيّ الحقيقيّ أكثر الناس حلماً وأقدرهم على ضبط النفس. تدريباته اليومية ليست عذاباً، بل طقساً للسموّ. صبره ليس ضعفاً بل وعياً وإصراراً على التقدّم.
مع الوقت يتحوّل هذا الصبر إلى أسلوب حياة. من يضبط انفعالاته في الملعب يقدر على إدارة غضبه خارجه، يواجه خصومه والحياة بالحساب والتأنّي والإصرار. الرياضيّ يُعيد تعريف القوة والانضباط، فهو لا ينتصر ليهزم غيره، بل ليهزم ضعفه. لذلك يصبح رمزاً للصبر في زمنٍ تتآكل فيه الأعصاب، وتضيع الضوابط، وتغيب القدرة على الاحتمال.
**
في خضمّ هذا المشهد المتناقض ـ جمالٌ صار قلقاً، ووجوهٌ مسمومة بالحقد، ونفوسٌ رياضيةٌ تعلّمنا الصبر ـ تبقى الذاكرة تبحث عن الجمال الذي لم يمت بعد. تسأل: متى انقلبت المحبة إلى خوف، والثقة إلى شك، والجمال إلى ندبةٍ في وجه الحياة؟
والجواب أنّ الجمال لا يزول، بل يُشوَّه حين يختل ميزان القيم. لا يموت الجمال، لكنه يختبئ خلف غبار الواقع، ينتظر من يزيل عنه الركام بالصبر والإصرار والنية الطيبة.
ما يحمينا من القبح هو ما تعلّمنا إيّاه الرياضة والحبّ معاً: الصبر، والتحمّل، والرغبة في الإصلاح دون حقد. فكيف نعيد للبنان ـ ولكل أرضٍ أنهكها الخراب ـ وجهها الجميل؟ كيف نُرمّم العلاقات ونوقظ الضمائر ونكبح النفوس الصغيرة التي تتغذى على أوجاع الآخرين؟
ليست الإجابات جاهزة، لكن الطريق يبدأ من الداخل، من استنهاض الضمير، ومن تربية الصبر كفضيلةٍ لا تقلّ عن الشجاعة والكرامة. فالجمال يُبنى ببطءٍ، بالتأنّي، وبالإصرار على الخير، بينما القبح يولد من اندفاعٍ أعمى وحقدٍ سريع.
وإن انكسر الجميل في لحظةٍ ما، فذلك ليس نهايته بل بدايته الجديدة. فكلّ ما هو جميل يولد من رحم الألم، وكلّ خرابٍ يمكن أن يُرمّم إذا توفرت النية. علينا أن نعيد البناء حجراً فوق حجر، صبراً بعد صبر، حتى يستعيد الجمال وجهه، وتعود الزرقة تمتدّ على الأفق، فنرى الحياة كما تستحق أن تُرى: جميلةً، متماسكةً، وإن أرهقها التشوّه المؤقت.
1/11/2025

