يوميات

هذيان بها

عمر الحمود

يا التي تشبه امرأة عزفتُها تراتيلَ عشقٍ في حياتي، ماذا فعلتِ بفاقدٍ يهذي؟!.

أنت هي لولا فارق العمر، تفاصيلُها الآسرة تفاصيلك، وصوتها الموسيقي صوتك، وملامح وجهها الحنطي ملامحك، وأصابعها الطويلة النحيلة أصابعك، أنت هي تختالين بانثناء كاف الكون، ورقّة نون النسوة.

يا الرافلة في شحوبٍ جليل، ومشية متهادية، وقلادةٍ ثمينة حول عنقها، تحمل الحرفَ الأول من اسمي كسرٍّ مفضوح، وتتدلّى لتقترب من القلب تعويذة أو تميمة، ظهورُك أيقظ براكين مشاعري الهادئة، وحكاية جميلة مع امرأةٍ لم تكتمل، دعيني أهمس لكما كلماتٍ تليق بحضوركما البهي، وذاك الحضور لم يكن طقساً عابراً في حياتي، بل هو وجودٌ باذخٌ، وانتماءٌ وجداني نبيل، ودفء شمس ربيع يُقصي برودي.

هي أنت يا أنت التي أمامي شجرة طِيب، تتفرّع أمامي ذكريات أنيسة، أتنفّس عبيرها الخفيف حياةً ونشوة، وأغني في مزاميري اشتياقاً لعودةٍ مشتهاة بعد بحثٍ طويل ومضنٍ، وأواعدها في تخيّلاتي كلّ مساء، وأعدّ فنجاني قهوة، وباقة أزهار على طاولة الانتظار في مكانٍ يندّيه الفرات، ويُظلّه الصفصاف وقصب الماء، لا يعرفه أحد سواها، وأنسج لها وشاحاً من بخار الهال، وحرارة الأشواق، وهذيان الوله، وأروح في نجوى لفنجانٍ معدٍّ لها، ولِمَ لا وهو المهيّأ لملامسة شفتيها، فيتبارك، وتتبعه أحلامي، تسمو، وتخفّ، وتشفُ، وترتفع إلى مقاماتٍ عليّة، وتغرف من شهد الغمام، ويطوف قلمي حولها، ويسكر في نفحاتٍ روحانية، وتستدرجه غوايات الكتابة، ويفيض قصائد أتعالى بها على فقدٍ أضنى جسدي، واغتراب يوغل في روحي، وتكون حروفي حمامات سلام في عالم الخراب والدم.

فيا أيتها الصبية المخلوقة من ذكرى وشبه امرأةٍ وشقاواتٍ شهية لطّفي قسوة ظهورك، فقد أرجحني بين الواقع والحلم، وحيّرني بينك وبين امرأةٍ أحبّها، أنت منها، وهي منك، كلّ ما فيك يشير إلى هذا، وأرى إشاراته بعين اليقين، وقد كنت أظنّ أنّ وجع فقدها كفاني وجعاً لبقية عمري، وعصمني من فتنة حواء، ومكر بناتها المزيونات مثلك؟!.

يا أنت التي أعدتِ لي طيف امرأة تتقنُ لغة الوجْد، فكتبتني أنشودة عِرْفان لحضورٍ وغياب، وجعلتني أختار لغة الورد، وأرسمها قارورة عطر، تخطفها عصفورة فرح، وتتشاقى من غصنٍ إلى غصن، ولا تأبه بأقفاصٍ ذهبية، أو أشراكٍ ناعمة، ينصبها حنيني لها، فكانت جنيّة نهر بارعة، تلوّع فراتاً بعابريه، وصياديه، وروّاده، وسفّانته، وتُسمعهم أغاني موروثة، ترميهم بمسٍ من حبٍّ عفيف.

اذكري لي اسمك؟.

ارتبكتْ في حضرتي، هابتني استهابة ابنة العشرين بابن الخمسين، أو استحيت منّي، ووشوشت بصوتٍ رخيم خفيض: لقد نسيت اسمي.

عندئذٍ قلت لها: مفاجأة ظهورك بعثرتني، وأنستني اسم أمّك.

واستنجدتُ بالظلِّ والشجر والريح والضفاف، ولم أجد سوى كلمات مواساةٍ باهتة: مسخّم هذا الرقّاوي الضال، فما مرّ عليه من مآسٍ أنسته نفسه!.

ولمتُ ذاكرتي على خِذلانها لي، ولم تعدْ بي إلى الذي كُنْته قبل ثلاثين سنة، حيث الصبا، والشغف، وصفو النفوس.

وعاتبتها، فهي تمدّني بحديثٍ عن الآخرين كراوٍ ملهم، ولا تتركني أجيد الحديث عن نفسي!.

لم أعدْ كما كنت، والسبب امرأة سرقتني منّي، واليوم أظهرت لي صبية تشبهُها لتكفّر عن إثمها الفاتك بي!.

وصدمتني خيبةٌ، فقدَر قافلتي التيه في هجيرٍ لا واحة خضيلة فيه، يجلي نسيمُها غبار البيْد، ويلطّف هبوب السموم.

أو الضياع في دروب الظمأ لأنثى كانت، أو لم تكن، أو غفَت في طور التكوين.

رأت الصبية ماحلّ بي، فقالت: أنت تشبه رجلاً، حدّثتني أمي عنه قبل وفاتها، كان على عهدٍ بينه وبينها.

وصمتت هنيهة كمن استحضرت شيئاً غالياً غاب عنها، وقالت دامعة: أنت هو، أنت يا الرجل الذي تاقت إليك عناقيدها اليانعة، ولم تكن النبّاذ لها.

أتابع كلامها، وقد كنت أظنّ أنّ أمها أخرجتني من حياتها بعد خصومة معها، توجّتها بزواجٍ عاجل، وإنّ بعض الظنّ إثم.

أعود إلى الوراء، لا أجد دروباً مشينا فيها، ولم ترحّب بي مدينة عشنا فيها، لا أواجه المرأة، لقد ماتت، وصارت الدروب غير الدروب، وتشوّهت المدينة، وإلا فمن أين لي هذا الحزن الكبير؟!.

فأزداد امتلاءً بها، وأرجع إلى الصبية الواقفة أمامي!.  

كانت تتحدث بانفعال، وهي تهزّ القلادة قائلة: هذه لأمّي، كنت أغار منك غيرة لاذعة، وأتمنى موتك، فاسمك على لسانها في خلواتها، كنتَ ندّاً لوالدي الذي غيّبته الحرب، وأحياناً أخالف نفسي، وأتبع هواي، وأحبّ ذكر اسمك، وأحلم برجلٍ أحبّه مثلما أحبّتك أمي!.

وسقطت دمعة على خدّها، انحدرت إلى الأرض، عانقت التراب، وكأنّها روت بذرةً كامنة فيه، نبتت نبتة، وتفتّحت زهرة حمراء، استطالت كما في الأسطورة، ومدّت عنقها صوب الأعلى، فاحتضنتها السماء نجمة صبح مضيئة، تؤنس سهارى آخر الليل، وسُراة العاشقين المجانين!.

فصرخت بعفوية: اسمها زهرة، وأنت ابنتها.

وبرقت في عيني الصبية نظرة إشفاق، أو عتاب، أو وجع، وغابت، وتركتني لعالم الذكرى الحزين، وماضٍ لم يدفنه تعاقب السنون، ولم تجرفه عواصف النسيان!.

وسطت عليّ خيبة أخرى، فحكايتي يقيت مفتوحة النهايات، تتشهى عودة امرأة تضع لها الخاتمة، لكنّ الغياب خطفها، ولم يترك عناوين لها، وملأ كأسي مرارة، فما كان جميلاً لا يعود، أو صار لا يعرفني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى