هل الهواية تصنع المبدع؟

عبد الكريم البليخ
سؤال يطرق أبواب الفكر بهدوء، لكنه في العمق يستفزّ التأمل ويدعو إلى الغوص في بحر التجربة الإنسانية:
هل تكفي الهواية وحدها لتصنع مبدعاً؟
هل يمكن لشغفٍ فطريٍّ أن يكون الشرارة التي تضيء طريق الإبداع، مهما كان مجاله: أدباً أو علماً، موسيقى أو رياضة، فناً أو اختراعاً؟ أم أن الإبداع أبعد من أن يُختزل في مجرد ميلٍ أو رغبةٍ عابرة؟
كثيرون يعتقدون أنَّ الموهبة أو الهواية هي المنطلق الأكيد نحو التميز، وأنها المفتاح السحري الذي يفتح أبواب العبقرية. غير أن الحقيقة، في جوهرها، أكثر تعقيداً. فالهواية وحدها، مهما اتقدت، لا تصنع مبدعاً إن لم يرافقها وعيٌ، وجهدٌ، ومثابرةٌ، وبيئةٌ قادرة على احتضانها. فالموهبة مثل البذرة، إن لم تجد أرضاً خصبة وماءً ورعاية، ذبلت قبل أن ترى النور، وإن نبتت بقيت قاصرة عن الإثمار.
الإبداع لا يولد من فراغ. هو ثمرة تراكمٍ طويل من المحاولات، من الصبر والعزيمة، من السقوط والقيام من جديد. المبدع الحقّ لا يكتفي بالهواية، بل يحوّلها إلى مشروع حياة، إلى وسيلة لفهم ذاته والعالم من حوله. إنّ الموهوبين كثيرون، لكن المبدعين قلة؛ لأنّ الفارق بينهما هو ما يزرعه الإنسان من التزام وإصرار في تربة شغفه.
إنّ الهواية بذاتها ليست نهاية الطريق، بل بدايته الأولى. هي الشرارة التي توقظ في الإنسان شغف التجريب والاكتشاف، لكنها لا تضمن الوصول. فالمبدع هو من يرى في هوايته وسيلة لتجاوز ذاته، لتوسيع مداركه، لابتكار الجديد، لا لمجرد التكرار أو المتعة العابرة. الإبداع لا ينبت في أرض التكرار، بل في المساحات التي يُغامر فيها الإنسان بجهده ووعيه ليخلق شيئاً مختلفاً، أصيلاً، نابضاً بالحياة.
الهواية في جوهرها تعبير عن حاجةٍ داخلية إلى الفعل، إلى تحويل ما في الداخل إلى واقعٍ محسوس. لكنّها قد تبقى حبيسة الذات ما لم تجد طريقها إلى النضوج عبر التجربة والمعرفة. فكم من موهبةٍ وُئدت لأنها لم تجد من يؤمن بها، وكم من شغفٍ انطفأ لأن صاحبه لم يملك الشجاعة لمواصلته.
الإبداع لا يزدهر إلا في بيئةٍ تسمح بالخطأ، تشجع على المحاولة، وتؤمن بأن الفشل ليس نهاية، بل خطوة في طريق التكوين. فالمبدع لا يُولد كاملاً، بل يتشكل شيئاً فشيئاً، عبر احتكاكه بالواقع، عبر صراعه مع القيود، عبر رفضه للسهولة والجاهز.
كل تجربةٍ في مسيرته، مهما بدت صغيرة، تصقل موهبته وتُهذّب رؤيته. إنّ الهواية قد تكون الينبوع الأول، لكن الاستمرار في العطاء يحتاج إلى نهرٍ من الجهد والوعي والانضباط.
في كل مبدعٍ صادق مزيجٌ من الطفل والعالم، من الحلم والعقل، من الخيال والتجريب. الطفل فيه هو الذي يحافظ على دهشته الأولى، والعالم هو الذي ينظّم تلك الدهشة ويحولها إلى معرفةٍ ومنهج. ومن دون هذا التوازن، تبقى الهواية مجرّد لعبٍ بريء لا يثمر شيئاً ذا قيمة.
الإبداع، في بعده الإنساني، هو تعبير عن الحرية. حرية التفكير، وحرية المحاولة، وحرية الخطأ. والمبدع الحقيقي هو الذي يدرك أن الإبداع ليس فقط في النتيجة، بل في الرحلة ذاتها، في المعاناة التي تسبق الاكتمال، في الجهد الذي يختبر صبره وإيمانه بما يفعل.
فالهواية لا تصنع المبدع إلا إذا حملت في داخلها شرارة الالتزام، أي أن تتحول من رغبةٍ في التسلية إلى هدفٍ يَرسمُ ملامح الكينونة.
وفي المقابل، هناك من يملكون كل المقوّمات التقنية والمعرفية، لكنهم بلا شغف، فينتجون ما يشبه الإبداع ولا يملكون روحه. لأنّ الإبداع ليس صنعةً فحسب، بل روحاً تتوهج من الداخل، لا يمكن تقليدها أو استنساخها.
المبدع الحقّ هو من يصغي لذلك النداء الداخلي الذي لا ينطفئ، ويسير خلفه رغم الصعوبات.
قد يتعثر، قد يشكّ، لكنه لا يتراجع. لأنّ ما يحركه ليس الطموح في المجد أو الاعتراف، بل الرغبة في الاكتمال الإنساني، في تحقيق ذاته عبر ما يحب.
الهواية حين تُغذّى بالمعرفة تتحول إلى فنّ، وحين يُضاف إليها الصبر تصبح علماً، وحين تتوّج بالإخلاص تصير رسالة. والإخلاص هنا ليس مجرد إتقان، بل هو حالة من الاندماج الكامل بين المبدع وعمله، بين الذات والفكرة، بين الداخل والعالم.
إنّ المبدع لا يهرب من صعوبات الحياة، بل يجد فيها مادة لإبداعه. فكل ألمٍ مرّ به، وكل تجربةٍ عاشها، تتحول في داخله إلى لونٍ جديد، إلى موسيقى، إلى فكرةٍ، إلى معنى.
إنّ الطريق إلى الإبداع ليس ممهّداً، بل هو مليء بالتناقضات، بالصراعات الداخلية، بالخذلان، وبالفرح المفاجئ الذي يولد من بين الرماد. من هنا، لا يمكن للهواية وحدها أن تصنع المبدع، لكنها بلا شكّ تفتح له الباب. أمّا عبور العتبة، فذلك شأن الإرادة والمثابرة والإيمان.
فالإبداع، ليس هديةً من السماء، ولا حكراً على قلةٍ من الناس، بل هو اختيارٌ يوميّ، وموقف من الوجود. هو أن ترى في ما تحب معنى يتجاوزك، وأن تسعى لأن تترك بصمةً لا تُنسى، مهما كان حقل عطائك.
وما دام الإنسان قادراً على أن يخلص لما يحب، وعلى أن يتجاوز حدود الخوف والكسل، فالهواية، في هذه الحالة، تكون البداية الأولى لحياةٍ عامرة بالخلق والعطاء.
إذن، ليست الهواية وحدها التي تصنع المبدع، بل ما يزرعه الإنسان فيها من صدقٍ، وما يبنيه حولها من إصرارٍ وعزيمةٍ ووعيٍ بالذات. فالهواية، حين تمتزج بالإرادة والمعرفة والإخلاص، تتحول إلى قدرٍ جميلٍ، يصنع من الإنسان كائنًا مبدعاً، يرى في العمل عشقاً، وفي الجهد متعة، وفي الحلم حياة.
وذلك هو جوهر الإبداع: أن تظل مشدوداً إلى ما تحب، رغم كل ما يعترضك من ظلال الحياة، حتى تبلغ ضوءك الخاص الذي لا يشبه أحداً.