رحلة فنية عبر الوجدان الإنساني العميق وتفاعلاته مع الواقع المرئي.
عدنان بشير معيتيق
التشكيلي يوسف القنصل أحد أبرز الأسماء في ساحة الفن الليبي المعاصر، حيث تتميز تجربته الفنية بقدرتها على المزج بين الموروث الثقافي الليبي والأساليب التشكيلية الحديثة. انطلقت مسيرته من اهتمام عميق بالهوية البصرية المحلية، ليتحول إلى ذاكرة تسجيلية فنية لتفاصيل الحياة اليومية والمكان والزخارف الشعبية، التي يبتكر منها لوحات تعبّر عن روح الإنسان الليبي وصراعاته وآماله، بتقنيات متنوعة وألوان جريئة.
عند الاقتراب من عالم الفنان الليبي يوسف القنصل تكاد تجزم أن الغاية هي اللون في أولها وآخرها. هناك احترافية عالية في التلوين، وإتقان لاقتناص مكامن الجمال في تفاصيل صغيرة مركونة بين الأعشاب تارة، مثل رسم الصخور وظلالها الملونة بأطياف متعددة، أغصان وأوراق وجذوع في وصف ميكروسكوبي أو في لوحات أخرى، يمتد شغف التلوين عبر مساحات شاسعة من حقول مفتوحة على المعنى موسومة بأزهى الأماني.
إخلاص للون والطبقات
كان الفنان يوسف القنصل مخلصاً لشغفه في التلوين وتعبيره، ومن خلاله يترك مكاناً للأشكال والخطوط في مساحات متزنة لشروط العمل الفني وتكوينه. إلا أنه لا يَخفي عشقه الأبدي لألوانه الخاصة وطريقته في العمل بطبقات متراكمة عبر ضربات فرشاة الرسم ومعالجاته المتفردة التي اكتسبها عبر سنوات طويلة من العمل والخبرة، وانفتاح الرؤية عنده واطلاعه على المنجز الفني التشكيلي العالمي مع الاحتفاظ بخصوصيته المحلية في أشكاله ومفرداته المرسومة.
التشكيلي الليبي فيصل القنصل
يرسم الفنان الحقول والأحراش، الأحجار والأغصان ولون أبوقرعون وأطياف الأقحوان، وكل الزهور المتخيلة والأحجار الملونة بأطيافها المتعددة وظلالها المتدرجة، يرسم شواطئ بلا عناوين، أمواجاً تلفظ أنفاسها على رمال ساطعة شديدة البياض، وآفاقاً دون أسقف، وسحباً بيضاء وظلالها الأرجوانية. يلقي اللقاء عند مناطق احمرار شفق النهايات بين السماء والأرض، وعلى حواف مساحات مرسومة كأنها صحارٍ زرقاء تموج كثبانها الهائجة في اضطراب لا تستكين فيها روح الرائي ولا تستقر.
تراه يرسم أيضاً وديانا ملونة ذات بهجة في تكويناتها من الكوارتز الوردي إلى الفيروزي والأحمر والأخضر، في جوقة لونية تبدأ من ذلك الركن القصي بين محاصيل القمح، لتلك الأحجار الكريمة المختبئة تحت ظلال الأشياء، إلى سهول وأسطح الوديان وما يبدو من أشجار وحقول في أفق المشهد بألوان بقع خضراء وزرقاء شفافة كأنها تنكشف بالوضوح وتتوارى بالغياب من حين إلى آخر.
أسلوب الفنان الفني تعبيري تجريدي، يهتم بالتلوين والإضاءة، ومن أهمها شروق وغروب الشمس بانعكاساتها وما تصنعه من ألوان وظلال على الأشياء المرسومة عنده، يجنح في بعض الأحيان إلى التمثيل الواقعي في لوحاته بشكل ثانوي في أعماله التي يحتل فيها التجريد المساحة الأكبر.
تأثير بصري
للفنان يوسف ذاكرة تسجيلية للألوان من خلال تفاعله مع الضوء الساقط على الأشياء، ورصده مكامن الجمال بمهارة الرسم من خطوط واثقة وضربات فرشاة مضيئة، كتلك التي انتبه إليها ونظر لها كلود مونيه في لوحته “انطباع شروق الشمس”، عبر لحظات عابرة تتكرر كل بداية يوم إلى لحظات المغيب.
ذاكرة ملونة للمكان
مشاهد متعددة للأمكنة ذاتها ومختلفة المناخات بأوقاتها وتبدل فصولها، عبَّر بها الانطباعيون كالفرنسي جورج سورات وملاحظاته في تقنيات التنقيطية وتجاور الألوان الرئيسية الصريحة في تكوين مشاهد ومؤثرات ذات قيمة فنية عالية أو ما أضافه فينسنت فان غوخ وصديقه بول غوغان من تنظيرات بصرية واكتشافات عن حالات اللون والضوء عبر ملاحظات دقيقة ورصد لتبدل الأوقات بألوانها وما تحدثه من انعكاسات على العالم بأسره. كانت انعكاسًا للمشاعر والأحاسيس الداخلية واتجاهات ذات مضامين فكرية تبتعد عن الأسلوب التوثيقي والمحاكاة الواقعية المباشرة، وتتجه إلى رحلة داخلية عبر الوجدان الإنساني العميق وتفاعلاته مع الواقع المرئي بأسلوب معاصر يعكس عصره وزمنه.
القنصل استقر على رسم المدرسة التعبيرية التجريدية بأسلوب معاصر يقترب من أنفاس الانطباعيين الجدد والتجريد المطلق
للفنان يوسف القنصل مراحل مر بها في بداية تكوينه الفني عبر تجربته العديد من المدارس الفنية والأساليب، وقد استقر على رسم المدرسة التعبيرية التجريدية بأسلوب معاصر يقترب من أنفاس الانطباعيين الجدد في بعض الأحيان والتجريد المطلق في العديد من أعماله.
كان يدرك أن كل الألوان والخطوط والمساحات لا تحمل أي جمال إلا إذا تمت صياغتها بنسق ما، وهذا النسق ليس بالضرورة عملا تشبيهيًا أو تمثيلياً، بل ربما التعبير من خلال محسنات تشكيلية أخرى هي من تضفي جمالها الخاص وروعتها على العمل الفني المنجز. كان له أسلوبه الخاص في المعالجة الفنية، الأسلوب الذي أضفى على مواضيعه تألقا وجمالا خاصاً.
أعماله تقع بين مناطق أول الانطباعيين في طزاجتها وتمتد إلى كل المراحل التي لحقتهم من تجارب الفن الحديث في شكلها وتقنياتها، مرورًا بالحدود المجاورة لتجارب الفرنسي نيكولا دو ستايل في رسم المناظر الطبيعية بأسلوب أقرب إلى التجريد، تصل إلى تخوم عوالم الأميركيين ريتشارد ديبنكورن ومارك روثكو في معالجاتهما البصرية، مع المحافظة على الخصوصية التي تميز فنه وأسلوبه.
مسيرة مهمة
الفنان يوسف عبدالله القنصل من مواليد مدينة جادو 1939، مقيم في طرابلس ليبيا، واكتسب خبرة أكاديمية في الفن من خلال دراسته تحديدا في روما بإيطاليا في عام 1978. حاصل على شهادة من أكاديمية الفنون الجميلة بروما. عمل في مجال تدريس مادة الفنون الجميلة بمعاهد المعلمين، وشارك في العديد من المعارض الفنية بالداخل والخارج.
الألوان والخطوط والمساحات لا تحمل أي جمال إلا إذا تمت صياغتها بنسق
كان له دور فاعل في نادي الرسامين بطرابلس، حيث انضم إليه منذ عام 1964 إلى منتصف السبعينات، وشغل منصب أمين الصندوق في النادي خلال فترة رئاسة الفنان الطاهر المغربي.
وله الكثير من المشاركات العلمية والأكاديمية، حيث شارك في وضع تصور للمناهج الدراسية الفنية للتعليم الثانوي التخصصي، شملت مواد الرسم والموسيقى والفنون الأخرى. له حضور في المشهد الفني، حيث شارك في أغلب المعارض الجماعية التي أُقيمت في طرابلس، بالإضافة إلى العديد من المشاركات الفنية الخارجية. أثرى المكتبة الفنية الأكاديمية في ليبيا بعدد من الكتب المتخصصة التي ركزت على تعليم الرسم ووضع المناهج التعليمية لمراحل مختلفة من التعليم.
كما أصدر الفنان يوسف القنصل كتابين، كان الكتاب الأول بعنوان “التاريخ والتذوق الفني” بالمشاركة مع الفنان أحمد الشريف والأستاذ مصطفى المرغني الهجرسي، أما عنوان الكتاب الثاني فكان “مجالات التربية الفنية” بالمشاركة مع الفنان أحمد الشريف والفنان عبدالسلام المرابط والأستاذ مصطفى المرغني الهجرسي.