ذكريات من الزمن الجميل

سعد الرميحي

العمر يمضي والحياة تتطوّر، وسرعة هذا التطوّر بمقدارٍ سريع، بل سريع جداً، فكأننا في سباقٍ معه، نحاول أن نلحق به لعلّنا نستطيع ذلك، خاصةً لجيلٍ لم يتعوّد على هذه السرعة في نقل وإيصال المعلومات إلى المتلقي.
ولكن وسط هذا وذاك، تبقى الذكريات هي أجمل ما عاشه الإنسان وعرفه في حياته.
الصورتان المرفقتان تجمعاني مع نجم كرة القدم الشهير جاسم يعقوب، الذي نال مؤخراً جائزة أسطورة كرة القدم في الكويت. الزمن بين الصورتين يقارب 44 سنة؛ الأولى أُخذت في مارس 1981م، وأنا أزور معسكر منتخب الكويت لكرة القدم في منطقة العديلية بالكويت، الذي كان وقتها يستعد لتصفيات كأس العالم 1982م، بينما أُخذت الصورة الثانية يوم السبت 5 يناير 2025م في حديقة الشهيد، ونحن نشارك في الحلقة الأخيرة من برنامج روّاد الخليج، ضمن البرامج الرياضية التي قدّمها تلفزيون الكويت لتغطية فعاليات دورة الخليج العربي لكرة القدم (26).
كان “جاسم” من الضيوف المميزين الذين أثْروا البرنامج بمداخلاتهم وحديثهم عن ذكرياتهم مع دورات الخليج وما عاشوه من أحداث ومباريات، مستذكراً هو وزملاؤه من اللاعبين والإعلاميين الدور الجميل الذي لعبته مجلة الصقر القطرية في دعم الرياضة والرياضيين العرب.
أسعدتني إشادة الحضور بتاريخ هذا اللاعب الكبير وما قدّمه لكرة القدم، إذ ما زال رقم “18” يمثّل عدد الأهداف التي أحرزها “جاسم” في دورات الخليج، وهو الرقم القياسي الذي لم يتمكن أي لاعب من تجاوزه، رغم أنّ “بو حمود” لم يشارك سوى في ثلاث دورات (1972، 1974، 1976).
لقد أحسنت اللجنة المنظمة العليا لبطولة الخليج حين كرّمت هذا اللاعب تقديراً لما قدّمه طوال مشواره الرياضي مع ناديه ومنتخب بلاده، فما زال “جاسم يعقوب” اسماً كبيراً في تاريخ كرة القدم العربية.
أما الصورة الثانية فتجمعني مع الزملاء الإعلاميين وقدامى اللاعبين، ونحن نجتمع في منزل “جاسم يعقوب” تلبيةً لدعوة الغداء التي أقامها لنا.
**
كان مشهداً مؤثراً وأنا أشاهد تلك الجموع الكبيرة التي جاءت لوداع شاعر قطر الكبير محمد بن خليفة العطية إلى مثواه الأخير، بعد رحلة عطاءٍ مليئة بحبّ الوطن وأهله، من خلال ما قدّمه من ثراءٍ أدبي طوال مشواره مع الشعر والأدب.
كان “بو عبد الرحمن” يجود في كل مرة بقصيدة شعرية أو موقفٍ تاريخي يجبرك على التوقّف لقراءته والتأمل في كلماته الجميلة وأسلوبه الشيق، ناهيك عن حديثه العميق في التاريخ والثقافة.
لقد أثْرى الساحة الأدبية بجميل أشعاره وترك فيها أجمل ما كتب، خاصةً في الوطنيات، إذ عُرف عنه دفاعه عن الوطن في كل مرة يُطلب منه إبداء الرأي في قضيةٍ وطنية، فكان دائماً في الطليعة.
إنّ مشوار أيّ كاتب أو شاعر أو إعلامي يتزيّن بما يقدّمه، والحقّ أنّ كتّاب قطر وشعراءها وإعلامييها تشهد لهم الساحات بمثل هذه المواقف المشرفة.
في رمضان الماضي، كان محمد بن خليفة العطية ضيف الصالون الثقافي في مجلسي، وأبدع “بو عبد الرحمن” وهو يسرد ثقافته العالية من خلال طرحه لقضايا تاريخية وسرده لأحداثٍ عديدة واستشرافه للمستقبل، فنال إعجاب الحضور، بل طلب منه بعضهم أن يُطلّ على ساحة الإعلام والثقافة في قطر عبر الندوات والمحاضرات، وهو ما كنت أنوي القيام به من خلال المركز القطري للصحافة. لكن رحلته مع العلاج وتعدّد أسفاره لم تُسعفني لتحقيق ذلك.
أودّع أخي وصديقي محمد بن خليفة العطية وأنا أعلم مقدار الخسارة الكبيرة في فقدان هذه القامة الأدبية الكبيرة، ولكن أمام إرادة الله لا نملك إلا الرضا بما كتب الله علينا.
داعياً المولى عزّ وجل أن يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جنّاته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
**
ومن صور الذكريات الجميلة، صورة تجمعني مع سعادة الشيخ جبر بن جاسم بن جبر آل ثاني (طيّب الله ثراه)، والأستاذ الإعلامي الكبير ناصر محمد العثمان (الوسط)، رئيس تحرير جريدتَي الراية ثم الشرق، ونحن نحضر حفل جريدة الشرق عام 2000م، ضمن عددٍ من ضيوف الحفل.
يُعتبر الشيخ جبر بن جاسم أحد الركائز الكبيرة التي اعتمدت عليها الشرق في مراحل تأسيسها عام 1985م تحت اسم جريدة الخليج اليوم، واستمرت في الإصدار اليومي حتى مايو 1987م.
وفي ذلك الشهر استدعاني – رحمه الله – إلى مجلسه في منطقة المرقاب، وأبلغني برغبته في أن أتولى رئاسة تحرير الصحيفة. أبدَيتُ سعادتي بهذه الثقة، واقترحتُ عليه أن نُوقف الإصدار اليومي مؤقتاً لإعادة ترتيب أوضاع الجريدة بما يتناسب مع نقلتها الجديدة، وإعادة إصدارها باسمٍ جديد، فوافق على ذلك.
في اليوم التالي التقينا في مقر الجريدة بحضور الوجيه علي بن سلطان العلي المعاضيد والشيخ عبدالرحمن بن عبدالله آل محمود، وتمّت الموافقة على اقتراحي. وحين سألني الشيخ جبر:
“ماذا نسمي الجريدة الجديدة؟”
اقترحتُ اسم الشرق، فتمت الموافقة عليه.
لتبدأ الجريدة مرحلتها الثانية بمسماها الجديد؛ إذ توقفت الخليج اليوم عن الصدور في مايو 1987م، ويومها كتب الأديب والشاعر الكبير مصطفى سند – رحمه الله – كلمة وداعية جميلة نُشرت في آخر إصدار لتلك الجريدة. فقد كان الأستاذ مصطفى نموذجاً مميزاً جمع بين الخُلُق الرفيع والكفاءة الصحفية والأدبية الراقية.
وفي 3 سبتمبر 1987م صدر العدد الأول من الشرق لتبدأ كأول صحيفة يومية عربية ثالثة في قطر بعد العرب والراية. كتب فيها نخبٌ رائعة من الشباب القطري والعربي.
لم أستمر في الشرق سوى أقل من عام، إذ تقرر بعدها نقلي للعمل في تلفزيون قطر، لكن علاقتي بالجريدة وبأسرتها وقيادتها ظلّت وثيقة حتى اليوم.
رحم الله الشيخ جبر بن جاسم بن جبر آل ثاني، الرجل الخلوق المتواضع، وأسكنه فسيح جناته، جزاءً لوقفته ودعمه لي ولبقية الزملاء، وأنا أبدأ مشواري كمؤسس ورئيس تحرير لجريدة الشرق الغرّاء.
				
					