الروح الحيَّة للرسم

ستار كاووش
لا يمكننا الحديث عن جمال الفن، دون الانتباه أولاً الى صانعي هذا الجمال، هؤلاء الذين أحاطونا بتأثيرهم وزينوا حياتنا بسحر أعمالهم وفتنة ابتكاراتهم. وجعلونا نتساءل عن أفكارهم ومعالجاتهم ومرجعياتهم، وكيفية انبثاق المحفزات الفنية في أذهانهم المتوقدة؟ وهل هناك تخطيطات ودراسات تسبق أعمالهم أم أن العفوية هي سيدة الموقف؟ من بين هؤلاء المبدعين الأفذاذ يبرز الفنان صبيح كلش الذي تنسابُ أعماله كأنها قصيدة يغمرها الحزن العراقي مرة، فيما يتهادى فوق سطوحها شجن مليء بمسرات غامضة مرة أخرى.
تتوزع الكتابات والرموز الرافدينية على سطوح لوحات صبيح كلش، وتتدفق الأشكال كأنها شآبيب مطر امتزجَ بحزن دفين، لكن رغم ذلك هناك ثمة ضوء دائماً، ضوء يتجلى بين تفاصيل الأعمال، أنه البريق المعادل للأمل، والنور الذي يشرق من خلال الخطوط الحية وجمال التكنيك الذي يستعمله والمرونة التي يُحرك بها فرشاة الرسم، وبذلك يمنح لوحاته روحاً حيةً تداعب العين وتُطرب القلب.
في أعمال عديدة فكَّكَ كلش أسطورة كلكامش والكثير من الحكايات والأساطير العراقية الأخرى، ووزع مفرداتها على سطوح لوحاته كأنها قطع موزاييك ملونة تُشرق هنا وهناك، لتضيء له طريق الرسم، وهو بذلك فتح نافذة مشرعة على وجع بلاد الرافدين، حيث أمسكَ الحروز والأحجية والتعاويذ ووظفها بطريقة مؤثرة، ومنحها أبعاداً جديدة ودوراً مختلفاً عن السائد، وهكذا تجاوز الكثير من أعراف الرسم المتعارف عليها، وانطلق لتأسيس مملكته الخاصة. وهو فوق كل ذلك لا يلتزم بالمنظور الاعتيادي ولا بالتكوين التقليدي لصياغة أعماله الأخاذة، بل يرمي مفرداته ونقوشه كما ترمي الأمهات قطع الحلوى فوق هامات الأطفال احتفالا بالنجاح، وقد نجحَ الفنان حقاً في فرش رموزه وعلاماته بطريقة العارف، ليمنحنا في النهاية كل هذا الجمال.
وبما أني عرفت الفنان الكبير صبيح كلش، وخبرته سنوات طويلة وراقبته مراراً وهو يضع طبقات اللون على قماشاته، وفهمتُ شروده ثم انتباهاته أمام القماشات وهو يفكر بهذا التغيير أو تلك الإضافة، لا يشغله غير ابداع عراقي يتوسد قلبه كفنان ثم ينام وسط الرافدين، ينظر بعين الى بغداد الحاضرة وبالعين الأخرى يستحضر كلكامش وصديقه أنكيدو. وهكذا صنع كلش أسطورته الشخصية التي ستبقى شاخصة إلى أمد بعيد، بعد أن حوَّلَ النواح إلى أغانٍ وعوّضَ البكاء بالأناشيد، وجعل اللون قصائد ناعمة. وكانت النتيجة أن لوحاته صارت بوابات مشرعة نحو التاريخ، وفي ذات الوقت تقول كلمتها على جدران المعارض.
أتخيله الآن وهو يضيف هذا التفصيل لوجهِ كلكامش، يُغَّير تلك الحركة لصاحبة الحانة سيدوري، يُضيف شعاعاً للشمس العراقية المتوهجة أعلى اللوحة، يمنح تعاطفه للبطل أنكيدو، ولا يخفي في النهاية توجسه من الثور السماوي، ووسط كل هذا وذاك يبحث عن المكان الذي سيضع فيه عشبة الخلود قبل إكتمال لوحته الجديدة. هل هناك أكثر جمالاً من فنان يحمل كل هذه الدراية البصرية؟ وهل هناك أعظم فتنة من الرسم وهو يوقعنا هكذا بحبائله الجميلة؟
رغم أن أعمال صبيح كلش تبدو رمزية بشكلها العام، لكنها مع ذلك تحمل بين طياتها الكثير مدارس الرسم وتقنياته، حيث يتداخل فيها التجريد مع التشخيص ويمتزج الواقع مع الأسطورة، وتنساب الألوان مثل الشلالات من أعلى اللوحات، لتغطي الوجوه وتُدثر التفاصيل وتمنح الأعمال غموضاً وتساؤلات. ففي مجموعة من أعماله، نرى كيف يُغشي الحزن الأزرق سطوح الأعمال، بينما تنبثق في مجموعة أخرى من اللوحات إشراقات اللون وطبقات عجائن الصباغة والحزوز وآثار الفرشاة التي تتراقص هنا وهناك. فيما طائر الخضيري يَمدُّ جناحيه نحو فضاء اللوحة عائداً الى الجنوب العراقى، تماماً كما تَعودُ ذاكرة فناننا المذهل الى جذوره الراسخة بين القصب.
ولأن أساس صبيح كلش الأكاديمي متماسكاً، ومعرفته بأسرار وتقنيات الرسم الأكاديمي واضحة ولا تُخطؤها العين، هو الذي حصل على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف من جامعة السوربون في باريس، ثم عملَ أستاذاً للفن في أكاديميات وجامعات عديدة، لذا فهو مثل العرّاف الذي يفرش رداءه أمامنا ليكشف حقيقة الرسم ويمنحنا دروساً بمعنى الفن والجمال ومعرفة الكثير من الحلول التشكيلية، حيث المتعة البصرية حاضرة والتقنية العالية بادية للعيان. يُضاف الى ذلك ثقافته العميقة التي ساعدته في بلورة أسلوبه الفني وربط الماضي بالحاضر.
ومهما كَثُرَتْ المصادر واختلفت المعالجات وتداخلت الرموز وتعددتْ الحلول التشكيلية في أعمال كلش، فالنتيجة الوحيدة هي أننا أمام أعمال ستبقى حاضرة الى الأبد، حاملة طابعها الشخصي ومناخاتها المتفردة وطاقتها المشتعلة. أعمال تحمل أجنحتها العراقية وتطير بها في فضاء العالم.