باليت المزمار

غرفة صبيح عفوان

ستار كاووش

كيف يمكننا الامساكَ بشيء من أيامنا القديمة واسترجاعها هنا على الورق؟ كيف نستعيد الأحداث والشخصيات التي نُحبها دون أن ننسى تفاصيل مهمة أو أحداث مؤثرة. بكل الأحوال لا بأس من المحاولة، ما دامت الصداقة هي التي ستقول كلمتها في النهاية. وهذا ما أحاول كتابته هنا كتحية الى صديق أعطاني الكثير من روحه وترك أثراً في نفسي أو بالأحرى فتح نافذة مضيئة في حياتي ورسم وشماً للمحبّة لا يمكن محوه أبداً. إنه صبيح عفوان الناقد والمثقف الذي كان وما زال مرادفاً للجمال الذي عشناه أنا ومجموعة كبيرة من الأصدقاء في أيام بغداد التي مرت سريعاً مثل طائر خرافي.

منذ أن رأيته أول مرة يتحدث مع شهاب الفضلي وجاسم لطيف بمحاذاة مقهى شارع الشركة بمدينة الثورة، شدّني بلباقته وإيجاده للكلمات المناسبة التي تجعل الآخرين يستمعون له بمحبّة واهتمام، وما زادَ من حضور هو مظهره الرياضي ووسامته اللافتة. كنتُ أمسك وقتها حقيبة صغيرة مليئة بمجموعة من تخطيطاتي التي أنتظر أن أحملها معي للتقديم لدراسة الرسم في أكاديمية الفنون. هناك قرب المقهى ناداني جاسم قائلاً (هذا هو صبيح الذي حدثتك عنه)، وما أن تحدثنا بضع كلمات حتى خُيِّلَ لي بأني أعرفه منذ زمن بعيد. ومنذ تلك اللحظة بدأت صداقة عظيمة مليئة بالكثير من الأفكار والتطلعات. كان صبيح محبّاً وكريماً يفتح بيته لنا نحن اصدقاءه لجلسات استثنائية تختلط فيها الأحاديث بدخان السجائر والتطلعات وهموم الثقافة والكتب والرسم وآخر القراءات. ووسط كل ذلك كان صبيح هو البادئ بالأفكار والحلول، وبقي دائماً مرآة للثقافة التي تُشذّب تصرفات الإنسان وتجعل تلقائيته نبيلة ومحبّبة.

ومثلما كان صبيح ماهراً في صنع البهجة وبارعاً في نسج التواصل مع الأصدقاء، فهو قد اشتغل في كل كتاباته وآراءَه على التحليل النفسي واللذة التي ينتجها إنجاز الكتابة أو الرسم أو المسرح واهتم بشكل خاص على تجارب المبدعين الذين لديهم مناطقهم الخاصة ولا يتعكزون على تجارب الآخرين. وعندَ كل تواصل بيننا كانت لديه أفكاراً وتصورات جديدة، حتى بدا لي أنه ينظر الى كل لوحة أو انتقاله جديدة لي بطريقة مختلفة عن الآخرين، وأشاهد في عينية سعادة تشع منها الطاقة والسند، إنها قوة الجمال التي تركها في روحي. وأتذكر كيف اقترح صبيح تسمية (جسد المدينة) عنواناً لمعرضي الشخصي الذي أقمته في مركز الفنون سنة 1991، لأنه رأى فيه انعكاساً سايكولوجياً لروح بغداد وزحام شوارعها واكتظاظ ساحاتها، فكان ذلك بمثابة هدية عظيمة لي، وفي الافتتاح بعد أن نقلنا لوحات المعرض معاً في شاحنة، توقف من جديد أمام لوحة عازف الساكسفون التي كانت تتصدر المعرض وحدثني كثيراً عنها. وعند انتهاء المعرض أرجعنا اللوحات الى المرسم بذات الشاحنة، ثم أكملنا طريقنا الى بيته حيث علقنا لوحة عازف الساكسفون في الغرفة التي تجمعنا كل يوم. تلك الغرفة الشهيرة التي كُنا نلتقي فيها نحن أصدقاءه في مقدمة بيتهم، والتي تحولت الى منتدى ثقافي للشعر والمسرح والرسم والحوارات الفلسفية والحديث عن آخر الكتب، ووسط كل ذلك كانت أطباق الطعام التي تحضرها والدته الرائعة تتدفق دون توقف، فيما يُخرج هو أحياناً قناني الشراب من زوايا سرية لا يعلم بها أحد. وكلما علا دخان السجائر في فضاء الغرفة، كلما أرتَقَتْ معه سحابة التحليلات النفسية التي برعَ بها صبيح ومازال متربعاً على عرشها. يا للصحبة ويا لجمال الإنسان حين يكون مثل هذا الصبيح البوهيمي الذكي والمثقف العارف.

ما زالَ صبيح في بغداد يفكر بجسد المدينة وفرحها وإحباطاتها أيضاً، وما برحَ يروّض أفكاره واستعاراته الفريدة ودعاباته الذكية، يمضي دون توقف ملاحقاً الجمال والتطلعات الكبيرة والافكار الأصيلة. فيما مضيتُ أنا مع أيامي بعيداً، لكن مع ذلك ظلَّ صبيح بالنسبة لي مرادفاً لكل جمال أراه ولكل إنسان باهر أقابله. سنوات تفصلني عن تلك اللقاءات، وقد حالفتني الظروف وأقمتُ معارضاً عديدة في صالات عرض مدهشة ومتاحف حديثة أو تعود لعصر الباروك، لكن غرفة صبيح البعيدة تلك هي التي شكلت الكثير من وجداني واندفاعاتي وافكاري، تلك الغرفة التي رغم صغر حجمها، لكنها كانت أوسع من متحف وأجمل من جمعية فنية، حيث بدا لنا وقتها أن كل شيء جميل قد بدء في تلك الغرفة التي اعتبرناها نحن الشباب الطموحين بمثابة صالون ثقافي لنا، نحن الذين صرنا – رغم فقرنا – أغنياء بوجود صبيح وغرفته التي كانت تؤوينا مثل رداء نحتمي به. ولو عاد بي الزمن الى أيام بغداد البعيدة، لما اخترت سوى جلسة واحدة في تلك الغرفة الجميلة صحبة الأصدقاء، نتبادل أحاديثنا الصاخبة فيما يضع صبيح كعادته علب سجائر (كولد كوست) على الطاولات الصغيرة التي أمامنا ويلتفتُ نحوي بهدوء وهو يهزّ رأسه خلسة، كإشارة الى أن لديه ما سنبلل به عروقنا. يا لبغداد التي تنجب مثل هذه الشخصية الجميلة، بغداد التي كنتُ وما زلت أراها في وجه صديقي صبيح عفوان.

أكتب الآن عن صديقي، وأتذكر كيف كنا ننتظر أن تُهيء لنا والدته الطعام في حرارة الصيف، حيث ينضج الخبز في خلفية البيت، فيما تنضج أفكارنا في حرارة غرفة صبيح بمقدمة البيت، وقتَ كانت التطلعات كبيرة والأحلام واسعة والدعابات غير قابلة للتوقف.

وبعد كل هذه الفترة الطويلة، ظلت مكانة صديقي خاصة ومضيئة في نفسي، بل تزداد قيمة مع مرور الأيام. ورغم قضائي نصف عمري في هولندا، متنقلاً بين المتاحف والزهور التي تملأ البلد، لكني لن أنسى الزهور التي زرعها صبيح في روحي، تلك الزهور التي ما زالت تفوح منها رائحة الصداقة والذكريات والأيام الفريدة التي لا تُنسى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى