“كنداكة على نهر الراين”: سفر بين الهوية والوطن والمنفى

غادة حسين موسى.. صوت سوداني يعبر الحدود
عبد الكريم البليخ

حين اعتلت الكاتبة السودانية غادة حسين موسى منصة “البيت العربي النمساوي للثقافة والفنون” في فيينا، كان الحضور على موعد مع حكاية لا تقتصر على السيرة الذاتية وحدها، بل تتجاوزها إلى شهادة إنسانية تحمل وجع المنفى وأسئلة الهوية وتحديات الاغتراب. كتابها «كنداكة على نهر الراين» ليس مجرد نص أدبي، بل مرآة تعكس سيرة امرأة سودانية حملت إرث الكنداكات، وجعلت من حياتها نصاً مفتوحاً على ذاكرة الوطن وأوجاع الهجرة.
أدار الندوة بنجاح لافت الروائي إياد حسن رئيس اللجنة الأدبية في البيت العربي النمساوي، كما وصفت الدكتورة إشراقة مصطفى الكتاب بأنه إعادة لكتابة سير النساء في سياقاتهن التاريخية والاجتماعية، تماماً كما عبّرت الكاتبة الأفرو- أميركية مايا أنجلو: “ليس هناك ألم أكبر من أن تحمل امرأة قصة حبيسة دون أن تُروى”. بهذا المعنى، جاء العنوان رمزاً للمرأة السودانية التي جمعت بين الحكمة والصلابة، وبين النيل والراين، بين الجذور والاغتراب.
شغف يصنع إنجازاً
الكتاب مكتوب بلغة مكثفة، مفعمة بالاقتباسات والرموز، وفيه يتداخل الخاص والعام، السيرة الشخصية مع التوثيق الاجتماعي، والذاكرة الفردية مع التاريخ الجمعي. غادة لا تروي تفاصيل طفولتها في السودان أو إقامتها في السعودية وهجرتها إلى هولندا فحسب، بل تستحضر أيضاً روح الأحياء السودانية، عادات البيوت والأسواق، وحكايات النساء اللواتي شكّلن خلفية وجدانية لسفرها. إنّه نص يشتبك مع قضايا الانتماء والهوية، ويفضح وجع الاغتراب وما يرافقه من صراع داخلي بين التقاليد والحداثة.

كنداكة على نهر النيل
لقد كتبت غادة سيرتها بين ثلاثة مجتمعات متباينة: السودان بجذوره وعاداته، والسعودية بتجربة الغربة الأولى، ثم هولندا التي مثّلت منعطفاً جديداً حيث اصطدم الحلم بواقع قاس. تسع سنوات عاشتها بوضع غير قانوني بعد رفض طلب اللجوء المتكرر. كان ذلك امتحاناً للنفس وللإرادة، لكنه أيضاً صقل شخصيتها، وحوّل الرفض إلى درس في الصبر والمثابرة. لم يكن اللجوء هدفاً لها، بل وسيلة عبور إلى حياة جديدة، ومع ذلك صار محطة مؤلمة شكّلت أساساً لتحوّلها من لاجئة تبحث عن مأوى إلى امرأة مهاجرة تصنع أثرها في المجتمع الجديد.
ورغم تلك المعاناة، لم تكن وحيدة. فقد وجدت دعماً من جهات رسمية ومنظمات مجتمع مدني في هولندا، منحوها العون المادي والمعنوي، وفتحوا أمامها بصيص أمل في نهاية النفق. هناك بدأت رحلتها الحقيقية: من امرأة تكافح من أجل البقاء، إلى ناشطة إنسانية تحمل على عاتقها قضايا المرأة والطفل، وتثبت أن الإرادة قادرة على تحويل الألم إلى قوة، والغربة إلى فرصة للانطلاق.


غادة لم تكتف بكتابة سيرتها في نص أدبي، بل صنعت من حياتها سيرة موازية في الواقع. أسست الجالية السودانية في مدينة دلفت الهولندية، وكانت أول رئيسة لها. من خلال هذا الدور، نجحت في جعل صوت السودانيين مسموعاً، وربطت بين ثقافتهم وفضاء المجتمع الهولندي. لم يكن المنصب تشريفاً، بل اختباراً لإرادتها، ومجالاً لإثبات قدرتها على القيادة في بيئة متعددة الثقافات والتحديات.
تؤمن غادة بأن الشغف هو الوقود الحقيقي للحياة. لم يكن لديها ظروف مثالية، بل على العكس، أنجزت معظم أعمالها في أقسى لحظات حياتها، بلا إقامة قانونية، بلا وضوح للطريق، لكنها امتلكت ذلك الدافع الداخلي الذي يقول: “لديكِ ما تقدمينه فلا تتوقفي”. الشغف عندها ليس مجرد إحساس عابر، بل هو البوصلة التي تدفعها لتخطي منطقة الراحة، حيث يبدأ التغيير الحقيقي.
جهودها الإنسانية لم تمر مرور الكرام. فقد حُفر اسمها على طوبة ذهبية في شوارع مدينة دلفت تكريماً لعطائها، ووضعت صورتها على غلاف مجلة أمريكية تقديراً لدورها في حماية الأطفال بالسودان، كما نالت جوائز عدة، بينها جائزة القيادة في التعليم من الهند، وجائزة القوة للمشاركة في المجتمع الهولندي.
لكن وراء كل هذه الإنجازات تبقى القصة الأساسية: قصة امرأة عبرت من ضفاف النيل إلى ضفاف الراين، حاملة في قلبها روح الكنداكة. لم تستسلم أمام جراح الغربة ولا قسوة الرفض، بل جعلت من المنفى منصة للانطلاق، ومن الهوية السودانية جسراً للتواصل مع الآخر. تقول: “لم أولد ملكة، لكنني ولدت بروح كنداكة… وسرت بها من ضفاف النيل حتى ضفاف الراين، أزرع أثراً وأحملها في قلبي كراية لا تنكسر”.
إن “كنداكة على نهر الراين” ليست فقط حكاية كاتبة سودانية، بل شهادة إنسانية على قدرة المرأة على إعادة تعريف ذاتها بين الوطن والمنفى، بين الألم والأمل. هو نص عن الصراع مع الهوية، وعن الذاكرة التي تستعيد التاريخ لتمنح الحاضر معنى، وعن رحلة امرأة جعلت من حياتها سفر عشقٍ للوطن، وصوتاً للنساء، ونداءً للأمل في زمن يزداد فيه الاغتراب قسوة والبحث عن الجذور إلحاحاً.
في كل محطة من محطات حياتها، كانت غادة حسين موسى تحمل حقيبة أكبر من السفر، حقيبة مليئة بالمسؤولية، بالانتماء، وبإصرار على أن تكون للمرأة السودانية مكانها الذي يليق بها. بدأت خطواتها في عالم العمل من مطار سخيبول الدولي بأمستردام، حيث عملت مساعدة في إدارة عمليات الركاب، لتتعلم أن إدارة التفاصيل الصغيرة هي أساس النجاحات الكبرى. ومن هناك إلى الخرطوم، حيث تولت منصب مشرفة استشارية لشركة كلين آند كلين للخدمات، ثم إلى لاهاي، حيث شغلت وظيفة مساعدة المدير التنفيذي لوكالة “سِبا / ويسترن يونيون”، قبل أن تنطلق باحثة في مجال التسويق بين هولندا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط.

لكن غادة لم تكتفِ بالوظائف، بل جعلت من تجربتها المهنية جسراً نحو العمل المجتمعي. ففي عام 2011، كانت من المؤسسين الأوائل للجالية السودانية في مدينة دلفت الهولندية، لتفتح فضاءً جامعاً يربط السودانيين بجذورهم، ويقدّم ثقافتهم للمجتمع الجديد. من هناك، بدأت رحلة طويلة من المبادرات: توسيع برنامج “جسدي هو جسدي” لحماية الأطفال في السودان، تدريب المتطوعين في المدارس والمعسكرات، تنظيم حملات توعية للنساء والأسر عن حقوق الطفل ومكافحة الفقر، والمساهمة في مشروعات بلدية دلفت، من القيادة النسائية إلى الأنشطة الثقافية المتعددة.
وبين دفتي كتبها ومقالاتها، كانت غادة تنسج رؤيتها. كتبت عن الطفل والمرأة والسلام المجتمعي، ونشرت خواطرها الأدبية ونصوصها على منصات متعددة، لتؤكد أن الكلمة حين تخرج من قلب صادق تصبح رسالة تتجاوز حدود الزمان والمكان.
كنداكة تصنع أثراً
أما دراستها الأكاديمية، فقد أضافت إلى مسيرتها بعداً آخر. نالت بكالوريوس إدارة الأعمال الدولية ـ تخصص المساعدات والتنمية الدولية من جامعة روتردام، وأكملت ما قبل الماجستير في اللوجستيات بالجامعة نفسها، وشاركت في برامج لتطوير الأعمال بشمال إفريقيا، إلى جانب مشاركاتها في مؤتمرات دولية مع منظمات كبرى مثل WHO وUNDRR ومعهد السلام الأمريكي.
هذا الجهد لم يمر من دون تكريم. فقد نُقش اسمها على طوبة ذهبية في أحد شوارع مدينة دلفت تخليداً لعطائها، واحتفى بها متحف برينسنهوف كرمز للإلهام والريادة النسائية، بينما تصدرت صورتها غلاف مجلة أمريكية إنسانية تقديراً لمساهمتها في حماية الأطفال بالسودان. كما نالت لقب سفيرة للنوايا الحسنة، واختيرت مديرة إقليمية لبرنامج “جسدي هو جسدي”، وفازت بجائزة القيادة في التعليم من الهند، وجائزة القوة لتعزيز المشاركة في المجتمع الهولندي، إلى جانب درع تقدير من ولاية القضارف لدورها في دعم معسكرات اللاجئين.
إنها مسيرة ليست عادية، بل حكاية امرأة عبرت من الوظيفة إلى الرسالة، ومن المنفى إلى التأثير، ومن حدود الغربة إلى فضاء الإنسانية الرحب. حكاية كتبتها غادة بروح الكنداكات اللواتي حكمن السودان ذات يوم بالحكمة والصلابة، وهي اليوم تواصل السير على ذات الطريق، بين النيل والراين، بين الذاكرة والحاضر، رافعة راية لا تنكسر: راية المرأة القادرة على أن تصنع فرقاً أينما حلت.
