على الملأ

ادفع بالتي هي أحسن

عبد الكريم البليخ

في دوّامة هذا العالم العربي المترنّح، حيث لا شيء يمضي كما يجب، وحيث يغدو المواطن مثل طائر مذعور يبحث عن مأوى فلا يجده، نعيش كل يوم على حافة الانفجار. نُكابر، نبتلع الغصّة، نرفع شعارات فارغة تلمع في الهواء لكنها تخلو من المعنى. وفي وسط هذا التيه، ما أحوجنا، حقاً، إلى لحظة صدق نعيد فيها النظر في كل شيء.

لقد أصبحنا، شئنا أم أبينا، أسرى ماضٍ لا يرحل، نجرّه معنا كما تُجرّ السلاسل في السجون القديمة. ماضٍ ثقيل، مُتخم بطقوس العجز، والحروب المؤجلة، والقصص التي لا تنتهي عن المجد الضائع. ماضٍ يشدّنا إلى الوراء كلما حاولنا أن نخطو خطوة إلى الأمام. ورغم بعض مظاهر التقدم، تبقى النفوس عالقة في أسى مزمن، يتجدّد مع كل صباح، ونظل نردّد ما يشبه التعويذة اليومية: “معاهم معاهم، عليهم عليهم!”، وكأنها نشيد المرحلة، حيث لا مبدأ إلا النجاة الفردية.

نحن بحاجة، لا إلى قرارات سياسية كبرى، بل إلى ضبط النفس، تلك الفضيلة التي تهاوت مع أوّل رشقة دم، وأوّل فاجعة لم نحسن دفنها. نحن بحاجة إلى أن نحرس أرواحنا من الانفلات، من الحقد، من الغل، من شهوة الانتقام، من ردود الفعل غير المحسوبة، لأننا إن لم نفعل، سندخل في متاهة لا خلاص منها، وسنندم حين لا ينفع الندم، ونلطم على الوجوه كما تفعل الأمهات في لحظات الفقد.

كم من مرّة سمعنا أنّ الجنون قد مسّ هذه الأمة، لكننا نصرّ على تزيين الجراح بالتمائم، وعلى أرشفة الخراب بدل مقاومته. نسكن الحيرة كما يُسكن البدوي في خيمته، ونتصالح مع الألم كأنه جزء من تكويننا الجيني. أي عقلٍ هذا الذي نريده أن يحتكم حين تتكاثر البنادق، وتتراجع الأحلام؟

وما أحوجنا ـ وأكررها لا تكراراً بل وجعاً ـ إلى أن نؤمن بالأمل، كما يؤمن الطفل بأغنيته الأولى. الأمل الذي لا يجيء من حسابات القوة، بل من عمق الإيمان بأن الخير لا يموت، وبأن الأرض التي احتضنتنا أول مرة، لا تزال قادرة على احتضاننا من جديد. الأرض التي تئن تحت وطأة الخراب، والجوع، والنفاق، والحصار، تنتظر منا بعض الوفاء، بعض العودة، بعض النزاهة.

وما أحوجنا إلى فارسٍ نقيّ، يخرج لا من رحم النبوءات ولا من صناديق الاقتراع، بل من نبض الناس الحقيقي. فارس لا يُشبه ما نراه في الإعلام، بل يشبه ما في قلوب البسطاء من حنينٍ للخلاص. فارس لا يعد بالمعجزات، بل يعيدنا إلى أنفسنا التي فقدناها.

نحتاج، بشدّة، إلى أن نعود إلى فنّ التعامل الحسن، لا تعاملاً مشروطاً بالمصالح، بل تعاملاً نابعاً من فضيلة الاعتراف بالذنب، والقدرة على الإصغاء، والحوار، والتسامح. متى صارت قلوبنا ضيّقة لهذا الحد؟ متى نسينا أن صدر الإنسان، حين يتسع، يُصلح أمة؟ ومتى صارت الكراهية ديناً، والغِلّ شرفاً، والاعتذار مذلة؟

نحن نعيش في زمن يستحق الغُسل الروحي. علينا أن نغسل قلوبنا كما تُغسل السجاجيد من غبار المدن القديمة، نُنظّفها من سواد الظن، ونعيد إليها بياضها الأول. علينا أن نُبرّئ وجداننا من ضوضاء الكراهية، وندعو، لا بما نريد فقط، بل بما يُرضي الله حقاً، لا ادعاءً.

وما أحوجنا إلى كلمة حقّ تُقال في وجه من تعوّد على الكذب، إلى صوت لا يُجامل، ولا يخاف، ولا يحيد. في عالم يغلي بالكذب، وتلتفُّ فيه الحقائق مثل أفعى، تصبح الحقيقة هي الفريضة الغائبة. الكلمة التي لا تباع، ولا تُذبح على موائد السلطة.

وما أحوجنا إلى أن نلتفّ حول بعضنا، لا بدافع الخوف، بل بدافع الحبّ الصادق. لا ذلك الحب المزيّف المغطى بالمجاملات، بل حبّ العارف، المتسامح، الصابر. أن ننافس بعضنا بما يخدم الناس، لا بما يحطمهم. ما نعيشه اليوم، من كراهية متوارثة، هو نتيجة حتمية لتنافس بغيض لا ينتمي للروح العربية، ولا لأي روح سوية.

وما أحوجنا أن نتطهّر من الخداع، من تلك الصور البشعة التي تنتشر كالطاعون في أروقة السياسة والإعلام والتعليم. الخداع الذي يُؤذي، يُهين، ويُدمّر الثقة، ويحوّل المجتمع إلى غابة من الشك.

الصراحة، في مثل هذا المناخ، ليست ترفاً، بل ضرورة. علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا أولاً. أن نتوقف عن التغنّي بالماضي، وتمجيد الأجداد، ونبدأ بالسؤال: ماذا فعلنا نحن؟ من نحن إن لم نبنِ على ما تركه لنا الأولون؟ وهل نرث المجد بالكلام، أم بالفعل؟

وما أحوجنا إلى أن نستعيد الغيرية، الشعور النبيل بالآخر، بإحساسه، بألمه، بأمله. غيريّتنا تموت يوماً بعد يوم، ونكاد نغدو جزرًا معزولة لا رابط بينها. لقد نسينا أن الشمس لا تُحجب بغربال، وأن الحقيقة لا يمكن كتمها مهما علت الأصوات الزائفة.

وما أحوجنا إلى الصدق، لا كقيمة أخلاقية فقط، بل كجوهر حضاري. فالمجتمع الذي يُكافئ الكاذب ويشك في الصادق، مجتمع معطوب، ضائع الوجهة. الصدق هو ما يحرّرنا، وهو ما يخلق الثقة الضرورية لبناء أي مستقبل.

الحقيقة، بدورها، ليست مجرّد رأي. إنها العمود الفقري لكل علاقة سليمة. من لا يقول الحقيقة، لا يعيش حقاً. من يُجمّل الوقائع خوفاً أو مصلحة، يُشارك في صناعة الزيف. ونحن في حاجة إلى أن نعيش وسط أحبّتنا بأمان نفسي، أن نحس بأننا لا نُخدع، ولا نُتاجر بمشاعرنا.

وما أحوجنا إلى صحفيٍ صادق، ذي ضمير حيّ، يعرفُ ماذا يقول، ولمن، وكيف. لا ذاك الصحفي الانتهازي الذي يقلب الحقائق، ويقتات على الإثارة، ويسرق العناوين. الصحافة ليست مهنة عابرة، إنها وعيُ الشعوب، ومراياها. لكنها ابتُليت بكثرة المتطفلين، الذين صنعوا لأنفسهم ألقاباً ما أنزل الله بها من سلطان.

وما أحوجنا إلى فنّانٍ حقيقيّ، لا يكتفي بالتأمل، بل يرسم المأساة، يواجهها، يصرخ بالألوان، لا أن يلوذ بالصمت. الفنان مرآة الأمّة، لا يجوز له أن يَغيب في زمن الجرح المفتوح.

وما أحوجنا إلى شبابٍ يؤمنون بقضاياهم، شبابٍ لا يبحثون عن الخلاص الفردي فقط، بل عن وطن متعافى، وطن لا يمشي على عكّازين، ولا ينزف من خاصرته. شبابٌ يحملون همّ الوطن في حقائبهم، وفي قلوبهم، لا على الشعارات فقط.

وما أحوجنا إلى موظف صادق، لا يلبس قناع التعالي، ولا يُسيء استغلال سلطته، ولا يجعل من منصبه منصة للقهر، بل يَخدم الناس كما يخدم أهله. فكم من موظف، يرفع شعارات النزاهة، ويضع على مكتبه عبارة: “ادفع بالتي هي أحسن”!، لكنه لا يدفع إلا الناس إلى الإذلال والمهانة.

وما أحوجنا إلى صديقٍ وفيّ، يقف معنا حين تتخلى الدنيا، لا حين تصفق الجماهير. الصداقة اليوم عملة نادرة، لأن المصلحة أكلت كل شيء. نحتاج إلى أصدقاء لا يطعنون في الظهر، لا يتنمّرون في لحظة الضعف، ولا يحتفلون بفشلنا خفية.

وما أحوجنا، في النهاية، إلى أن نستعيد دفء النفس، أن نكون أقل نرجسية، وأكثر قرباً من إنسانيتنا. أن نحب الناس حباً صادقاً، لا حبّ الصور، ولا حبّ العيون المزيّفة. أن نعيش حياة كريمة، بلا طمع، بلا تحقير، بلا تلوّن. أن نوسّع قلوبنا بما يكفي للجميع، نرسم السعادة لا كحلم، بل كحقّ لكل من يستحقه. ولكن… هل نستحق كل هذا الحب؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى