باليت المزمار

كي أجد لحياتي معنى

ستار كاووش

لا أعرف هل سيكون لحياتي معنى لو لم أكن رسّام لوحات؟ ماذا سأصنع بأيامي إن كانت الألوان ليست جزءاً حيوياً منها؟ كيف سأقضي وقتي وكيف سأعيش وإلى أين ستأخذني دروب الحياة إن لم أكن (صانع صور) بطريقة خاصة تحمل الكثير من المتعة والتأمّل والاكتشاف؟ مثل هذا التساؤلات تخطر في ذهني غالباً وأنا أهيء المرسم للبدء بلوحة جديدة، حيث يأخذني خيالي بعيداً وأنا أشد الكانفاس على الإطارات الداخلية وأهيئ الألوان كي أمضي بعدها مع الرسم ساعات طويلة، وكأني أجوبُ عوالم خفية وغامضة وبعيدة. هكذا يمضي بي الوقت حتى تأتي لحظة تنظيف المكان بعد الانتهاء من العمل وتهيئة المرسم لليوم التالي.

الرسم هو الجدار الذي أتكئ عليه في عزلتي، وهو المظلة التي تحميني من مطر الضجر والعادات اليومية المتكررة. وما أن أضع قدمي على عتبة المرسم، حتى أستعيد عادات القرن السابع عشر من حيث الالتزام اليومي بالرسم، وما أن أبدأ بالرسم حتى أستحضر تقاليد القرن التاسع عشر من ناحية البحث عن الإشراقات والإمكانات التي توفرها الألوان، وبعد الإنغمار بالعمل أجد نفسي في أروقة نائية صحبة فنانين أحبهم. لكني مع كل ذلك أعيش بالتأكيد في وقتنا الحاضر، حيث أمضي كل يوم باتجاه المرسم، باحثاً عن شيء شخصي لكنه بعيد، وبمعنى آخر هو أن أجد لحياتي معنى. وربما هذا التوصيف ينطبق أيضاً على كُتّابِ القصص والروايات الذين يعيشون وسط عوالمهم ويتحاورون مع أبطالهم بطريقة لا مثيل لها في واقعنا اليومي.

تخيل أنك تذهب كل يوم إلى مكان ما كي تلعب بطريقة استثنائية، وأقصد أن تلعب بمواد الرسم. يا لها من وسيلة لاكتشاف هذه المواد والخامات التي تبدو صماء تماماً، لكن ما أن تضع يدك عليها حتى تشرق منها شموساً وأقماراً، وتتراقص بين ثناياها الملائكة والشياطين معاً، وتغفوا بين ثناياها الفتيات الجميلات. مواد الرسم لمن لا يعرفها هي أدوات وأشياء معينة مثل باقي الأشياء، لكنها في الحقيقة تشبه صندوق العجائب المليء بالقصص والحكايات الممتعة والجميلة، انها الباب الذي يفضي لسحر بعيد المنال، لكنها أيضاً تشبه بذرة عليَّ أن أغرسها في المكان الصحيح وبالطريقة المناسبة، لتمنحني في النهاية كل هذا الألق وهذه البهجة. هكذا يمكن أن تأخذنا ألوان الرسم وأدواته في دروب ومتاهات من الجمال، تُبعد عنا الكآبة والضجر، وتجعلنا نعيش داخل تعويذة نؤمن بها ونحبها.

بشكل شخصي أرى أنه ينبغي للرسام أن يبني عالمه الخاص والفريد ويعيش داخل الرسم ذاته حتى يتمكن من الوصول التي أهداف جمالية حقيقية، لكن لا شيء يولد عفوياً بمجرد كونكَ رساماً، بل عليك أن تعرف حكاية الرسم وما يعنيه، أن تحبه وتنتمي اليه. فبضع شخطات عابرة لا تمضي بك أبعد من باب المرسم، وهي غير كافية لصنع العجائب.

من جانب آخر لا يتوقف دور الفنان عند رسم اللوحات فقط، بل أن مشاهدة الأعمال الفنية يفعل فعل السحر أيضاً. وكلما توقفنا أمام عمل فني جميل وتأملناه جيداً، تكون النتائج مذهلة عند إنجاز أعمالنا الخاصة. فالعمل الفني الجميل يشبه الطعام الجيد، فكلاهما يمنحك فيتامينات أنت بحاجة اليها. وكما يقولون أن العقل السليم في الجسم السليم، فأن الذوق الجمالي والارتقاء بالفن ينبع من حاضنة مناسبة وتجارب جمالية جيدة ومنتقاة، تجارب تمنحك مع الوقت خبرة وحس وذوق فريد يتدفق بداخلك مثل النهر الجاري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى