في الشبكة

كأس العالم للأندية.. نجاح مؤجل؟

عبد الكريم البليخ

كأس العالم للأندية التي تستعد مدينة ميامي لاستقبالها ليست مجرد بطولة كروية عابرة على تقويم الفيفا، بل أشبه بتجربة كونية طموحة تحمل في طيّاتها ملامح صراع خفيّ، يكاد يكون وجوديّاً، بين عملاقين: الفيفا من جهة، والاتحاد الأوروبي لكرة القدم من جهة أخرى. في قلب هذا المشروع يقف جياني إنفانتينو، رجل تحوّل من إداري إلى مؤلف لخيال رياضي جديد، يغازل فكرة دوري سوبر عالمي يعيد رسم حدود السيادة الكروية، ويحاول بعناد أن يكسر القبضة الأوروبية المحكمة على المعنى والهيبة والتسويق.

البطولة، في صورتها الحالية، تستعرض نُخبة من الأندية العالمية: ريال مدريد، باريس سان جيرمان، ريفر بليت، تشلسي، إنتر ميلان، بنفيكا، يوفنتوس، بايرن ميونخ، مانشستر سيتي، الأهلي المصري، الهلال السعودي الترجي التونسي، وأسماء أخرى تمثل تنوع الجغرافيا وامتداد النفوذ الكروي. لكن البريق على الورق لا ينعكس بسهولة على الأرض. فالأرصفة الأمريكية، رغم تنظيمها، لا تمتلئ بالحشود. الملاعب، رغم فخامتها، تئن من المقاعد الفارغة. ملعب “هارد روك” في ميامي، الذي يتسع لخمسة وستين ألف متفرج، لم يُبع منه قبل مباراة الافتتاح سوى عشرين ألف تذكرة، ما اضطر الفيفا إلى تخفيض الأسعار بنسبة خمسين بالمئة، وغيرها من الملاعب . إذا كانت هذه بداية مدينة تتنفس الكرة وتستضيف نادياً يحمل اسمها وبداخله ميسي، فكيف سيكون المشهد حين يواجه الوداد المغربي فريق العين الإماراتي؟

تبدو البطولة كمن يسير بخطى واسعة في رداء أكبر من جسده. غياب الأندية الأوروبية الكبرى، تلك التي تشكّل الأعمدة النفسية لملايين المشجعين، يضعف جاذبية البطولة. ليفربول، برشلونة، مانشستر يونايتد، أرسنال، ميلان… كلها أسماء تغيّبت عن هذه النسخة، ما فتح باب الحديث داخل دوائر الفيفا عن ضرورة توسيع المشاركة إلى 48 نادياً في نسخة 2029. ليس فقط لإرضاء الجمهور، بل أيضاً كخطوة استباقية لترويض احتجاجات الأندية الغائبة، التي بدأت تهمس باستياءها في أذن المؤسسة.

في المقابل، ترتفع أصوات من نوع آخر. أصوات اللاعبين أنفسهم، عبر اتحادهم الدولي “فيفبرو”، حيث لم يُخفوا قلقهم من هذا التمدد الذي لا يرحم. لاعب كرة القدم، في نظر الفيفا، يبدو وكأنه آلة لا تنضب، بينما الواقع مختلف تماماً. جدول مزدحم يبدأ بيورو 2024، ثم كأس العالم للأندية في 2025، ثم كأس العالم للمنتخبات في 2026. ثلاثة صيفيات متتالية بلا راحة، بلا نفس. وفي الخلفية، أجساد منهكة وذهنيات تتآكل تحت ضغط اللعب المستمر.

المال، كما هو متوقع، حاضر في المشهد. لكنه لا يُخفي ارتباكه. صفقات الرعاية تأتي متأخرة على نحو غير معتاد. الخطوط القطرية تُعلن كشريك قبل 48 ساعة من الافتتاح. صندوق الاستثمارات العامة السعودي يدخل عبر شبكة “دازن” التي استحوذت على حقوق البث. الأمور تبدو وكأنها تُرتّب أثناء الجري، لا قبله. حتى الجوائز المالية، رغم ضخامتها الظاهرية، تكشف عن تفاوت لا يخلو من دلالة. فالبطل سيحصل على 125.8 مليون دولار، وهو مبلغ أقل مما حصل عليه باريس سان جيرمان من “اليويفا” خلال مسيرته في دوري الأبطال. أندية أوقيانوسيا تكتفي بـ3.58 مليون لمجرد الحضور، بينما تحصد فرق إفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية تسعة ملايين ونصف، وتحصل أندية أمريكا الجنوبية على 15 مليوناً، فيما تُقدَّر حصة الفرق الأوروبية ما بين 12 إلى 38 مليون دولار، بناءً على ما تسميه الفيفا “المعايير الرياضية والتجارية”، أي الشهرة والتأثير.

هكذا تبدو البطولة: استعراض عضلات في جسدٍ لم يتعافَ بعد من الإنهاك. عُرس عالميٌّ بأجنحة غير متساوية، في مدينة تُجيد تنظيم المؤتمرات لكنها لم تَعِ بعد كيف تُشعل مدرجاً بالحماسة. إنّها أقرب إلى حلم واسع يرسمه إنفانتينو على خرائط جديدة، حلم يحاول فيه الإمساك بالعالم كله بين قبضتيه، لكنّه يصطدم بأسئلة حقيقية: هل تحتمل الكرة هذا الامتداد؟ هل يمكن أن تُصنع بطولة كبرى على مقاس الطموح وحده دون جذور شعبيّة أو زخمٍ نفسيّ؟ وهل تكفي الحشود الرقمية والإعلانات لرسم دهشة حقيقية في عيون الجمهور؟

قد تكون كأس العالم للأندية تمريناً تجريبياً لما هو أعظم، لكنها أيضاً مرآة تُظهر ملامح أزمة خفيّة في بنية اللعبة الحديثة: كرة القدم لم تعد مجرّد لعبة، لكنها لم تعد، أيضاً، مجرّد استثمار. إنها الآن مساحة مشتبكة بين الخيال والطاقة والحدود، وبين أجساد اللاعبين المرهقة وطموحات المؤسّسات المتورّمة. في هذا التوازن الصعب، لن يكون النجاح مسألة تنظيم فحسب، بل اختباراً حقيقياً: هل ما زالت الجماهير تملك قلباً ينبض لهذه اللعبة، حين تُفرَض عليها خارج السياق، وتُعلَّب داخل جدولةٍ لا تُبقي لها وقتاً للتنفّس أو الاشتياق؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى