باليت المزمار

اللوحة التي غيرت حياتي

ستار كاووش

منذ طفولتي المبكرة، وحتى قبل أن أتعلم المشي والكلام، إنطبعت في ذهني تلك اللوحة الجميلة المعلقة في بيتنا، لوحة حقيقية مؤطرة بإطار بسيط وزجاج يحميها من الغبار. تغيرت أشياء كثيرة في حياتي، لكني لم أنسَ أبداً تلك اللوحة وحجمها المهول بالنسبة لطفل صغير مثلي، حيث كانت مرسومة بعناية فائقة بالفحم على الورق، ومعلقة في مكان فوق الباب الفاصل بين غرفة المعيشة وغرفة الضيوف. لونان فقط هما الأسود والأبيض، لكنهما كانا كفيلان بنقل حياة كاملة، حيث يختبأ ذلك البورتريت خلف الزجاج الذي يزيده جاذبية وغموضاً. ورغم ارتفاعها الذي لم يتجاوز الستين في خمسين سنتمتراً تقريباً، لكنها كانت في نظر ذلك الطفل لوحة عملاقة لا تكتمل هيئة البيت بدونها. كنتُ أنظر الى ذلك الرجل الجميل الذي يضع يده تحت ذقنه ويزداد جمالاً كلما مرَّ الزمن، لكني وبسبب صغر سني لم أعرف من هو، حتى ظننت بأنه أحد أفراد العائلة أو أحد الأقارب، وقد ازدادت هذه التصورات في ذهني لأن صورة والدي ذاتها كانت أصغر حجماَ من ذلك البورتريت الذي تعودنا عليه نحن الصغار أكثر من تعودنا على مصابيح البيت ونوافذه، وكان يبهرنا رغم المسحة الرمادية التي غطته بسبب مرور الزمن. وحتى عند انتقالنا الى بيت جديد، أختار أبي مكاناً للبورتريت مشابهاً لمكانه في البيت القديم وأتذكر حين سقطت اللوحة وانكسر الزجاج والإطار، وحدثت حالة طواريء في البيت، حيث تركَ أبي كل شيء وتفرغَ لشراء إطار وزجاج جديد للبورتريت، الذي عادَ كما هو عليه كأنه تحفة وسط متحف.

السنوات تمر، وأنا وأخوتي نتمعن كل يوم بتلك اللوحة التي كانت عبارة عن بورتريت لفريد الأطرش، وهو يضع كفه على وجهه وينظر الينا كأنه أحد أفراد العائلة. كبرتُ وكبرتْ ذكرياتي مع اللوحة، وفي كل مرة كان أبي المغرم بفريد بطريقة استثنائية، يقص علينا شيئاً حول اللوحة، حتى صارت إحدى أساطير البيت، وفوق هذا جعلتني أتعلق بالرسم بطريقة لا يمكن الحياد عنها.

كل من كان يدخل بيتنا تستوقفه تلك اللوحة التي رسمها قريبنا الفنان المبدع صباح حسين دَلي والموقعة سنة ١٩٦٤، أي بعدَ ولادتي بسنة واحدة. وقد كبرتُ بين النظر اليها وسماع القصص والحكايات التي تُحاك حولها وحولَ أسطورة فريد، وهكذا إجتمعَت على جدار البيت قوة الرسم مع جمال الصوت في مكان واحد، ليتحول البورتريت الى أسطورة كبيرة داخل بيتنا الصغير.

هكذا كبرنا أنا واخوتي وما زال فريد ذلك الشاب الجميل الذي في اللوحة. ومع مرور السنوات كنتُ كلما أنظر الى تلك اللوحة، يزداد إهتمامي بالرسم، حتى نظر أبي الى رسوماتي الصغيرة ذات يوم وقال لي (هيء نفسك ورسوماتك وسنذهب معاً الى بيت قريبنا صباح، عسى أن يُفيدك ببعض الأفكار والتصورات حول رسمك) قال أبي ذلك وهو يشير الى بورتريت فريد الأطرش الذي بدا كأنه شاهداً على تلك الحكاية. فأجبته فرحاً (هل تقصد بأننا سنذهب الـى رسام هذه اللوحة؟) فقد كنتُ أسمع الحكايات عن صباح وأعماله المدهشة وصار عندي بمثابة نصف إله، لكني لم ألتقيه أبداً بسبب فرق السن بيننا، كذلك لأنه يسكن في الجانب الآخر من بغداد.

وهكذا جمعت بعض رسوماتي المائية التي رسمتها عن الصور التي أُعجبتُ بها من خلال أبي، والتي كانت لغاندي وجمال عبد الناصر وهوشي منه وبعض الشخصيات الأخرى، وتوجهنا الى هناك. لم أنسَ الطريق الذي قطعناه بإتجاه بيت صباح، حيث لاحظ أبي قلقي، فتوقف قُبيلَ وصولنا ورَتَّبَ هندامي ونظر اليَّ قائلاً (عَدِّل هيئتك وإهدأ، ولا تنسى بأنك رسام جيد)، لحظتها إزدادت محبتي كثيراً لأبي الذي أكمل (صباح، فنان وكلنا معجبين به، مع ذلك هو إنسان بسيط ورائع) وليخفف من وطأة لقائي بفنان حقيقي، قال مفاخراً بإبن عمه (هو شخص عصامي وحين كان في مثل عمرك كان يعمل أيام العطل للتكفل بمصروفاته). تلك الكلمات كانت هي المدخل للقاء صباح الذي إستقبلنا بهدوء وألفة، بلهجته البغدادية المحببة، وبعد أن تأمل رسوماتي المائية، قال لي (أن مكانك حقاً في المعهد أو الاكاديمية). وهذا كان أكثر ما أطمح لسماعه من الاستاذ الذي فتح لي نافذة للفن من خلال ذلك البورتريت الذي عاش معنا. وقبل أن نودعه، سألني قائلاً (غداً لدي موعد في أكاديمية الفنون، فهل تحب أن تأتي معي لتتعرف على الأجواء هناك؟) فكانت إلتفاتة مذهلة منه، وكان ذلك اليوم واحداً من أجمل ايامي، صحبة هذا الأستاذ الذي تخرج من تحت يديه الكثير من طلاب الفن. صباح الذي كان وسيبقى أحد الفرسان الذين مروا بحياتي وشجعوني لأكمل طريق الفن الذي عشقته حقاً ولا أعرف ماذا سأفعل بحياتي من دونه.

مرَّت سنوات كثيرة، ومضيتُ بحياتي مع الرسم، وعرضت لوحاتي في قاعات ومتاحف لم أكن أحلم بها وفي مدن عديدة ومتباعدة، لكني مع ذلك لن أنسى ذلك البورتريت وتلك الهالة العظيمة التي منحها لي وذلك السحر الذي جعلتي رساماً. كان ذلك البورتريت الذي أضاءَ بيتنا كل تلك السنوات هو المفتاح الذي فتح لي باب الرسم، وكان صباح حسين دلي، أول رسام أعرفه بشحمه ولحمه، وهو العراف والساحر الذي بسببه مضيتُ بخطواتي نحو عالم الفن الواسع والرحب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى