
عبد الكريم البليخ

ليست البطولة، في جوهرها الأصيل، مجرّد درع يُرفع ولا مجرد رقم يُضاف إلى رصيد. البطولة ـ حين تكون حقيقية ـ تصبح شهادة وجود، ومساءلة زمن، ووقفة مع الذات قبل أن تكون ركضاً نحو مرمى. وعندما تُذكر كلمة “الأهلي”، فإن الأمر يتجاوز خطوط الملعب وخطط المدربين وأهداف اللاعبين؛ فهنا نتحدث عن كيان له ذاكرة جمعية، جغرافيا وجدانية، وعصب روحي يربط ما بين جمهور وفريق، بين تاريخ وحاضر، بين حلم وعادة.
في موسمٍ لم يكن عادياً، حسم الأهلي بطولة الدوري المصري للمرة الخامسة والأربعين في تاريخه، رافعاً رصيده من البطولات إلى 155. الرقم، وإن بدا ضخماً في قاموس الإنجازات، فإنّه لا يُعبّر تماماً عن الصورة الكاملة، تلك التي تنسجها التفاصيل الصغيرة: عرق اللاعبين، صبر الجماهير، معارك اللائحة، التنافس المحتدم، ومشهد الختام الذي اختلط فيه التكتيك بالعاطفة، والحسم بالتحية.
ست مباريات، هي كل ما احتاجه الأهلي في النصف الأخير من الدوري ليقول كلمته الحاسمة. ست مباريات جمع فيها 18 نقطة، وسجّل 21 هدفاً، بمتوسط يزيد عن ثلاثة أهداف في كل مباراة. وكأن النادي العريق قرر أن يسترد ما كان مؤجلاً، ليس فقط ليحقق اللقب، بل ليؤكد أن الأداء لا يقل أهمية عن الإنجاز، وأن التتويج لا يجب أن يأتي إلا بعد عرضٍ يليق بالجمهور والاسم والتاريخ.
من ملعب القاهرة الدولي، إلى برج العرب، إلى المدرجات التي استوعبت آهات الفوز وخيبات الأمل، تحكي البنية التحتية لكرة القدم المصرية قصة موازية لقصة البطولة. هناك في قلب العاصمة، حيث تتعانق الأسمنتات العتيقة مع شغف الشباب، يصبح الاستاد معبداً مدنياً للانتماء. الأهالي الذين جاءوا من أطراف المدينة، عبر مترو الأنفاق أو حافلات الرحمة، لم يأتوا فقط ليشاهدوا أهدافاً؛ بل جاءوا ليكونوا جزءاً من الرواية.

فريق النادي الاهلي بطل الدوري المصري 2024 ـ 2025
في مباراة التتويج أمام فاركو، بدت المدرجات وكأنها لوحات من الفسيفساء الإنسانية: أب يحمل طفله على كتفه، شاب يرفع لافتة كتبها بيده المرتجفة، عجوز يصفّق ببطء وكأن قلبه يعود ثلاثين سنة إلى الوراء. حتى الأرصفة المحيطة بالملعب شهدت طقوس الانتماء: باعة يبيعون الأعلام، فتية يطلقون أبواقًا بلا توقف، رجال شرطة يبتسمون تحت أضواء المصابيح. كأنما المدينة كلها تواطأت مع الحلم.
ولأن البطولة الحقيقية لا تُنتزع في صمت، كان لا بد من دراما. لم تكن المنافسة مع بيراميدز محض منافسة حسابية، بل كانت بمثابة مواجهة بين فكرتين: بين الاستمرارية والحداثة، بين التقليد المتجذر والطموح المتسارع. الفريق الصاعد الذي قدّم موسماً استثنائياً، خسر في لحظات كان فيها اللقب على مرمى يد، وتعثّر أمام البنك الأهلي وفاركو، مفوّتاً ست نقاط كانت كفيلة بقلب الطاولة.

جماهير النادي الأهلي تحتفل بالبطولة
ثم جاءت المحكمة الرياضية الدولية، كأنّها قدر العصر الحديث، لتحوّل الرياضة إلى مسألة قانونية. هناك، بين سطور اللائحة، كان المعنى ضائعاً: تفسيرات متعددة، فجوات نصوص، إرباك في التطبيق. وهي سابقة لا تمس فقط كرة القدم، بل تكشف هشاشة البنية الإدارية التي تدير اللعبة، وتجعل من اللوائح حقل ألغام لا مرجعية فيه إلا التأويل.
ومع ذلك، يظل الفوز هو الحكم العادل حين يُترجم على العشب الأخضر. ومهما تأخرت الأحكام، يبقى الهدف الذي سُجّل والتمريرة التي صُنعت والانتصار الذي تحقق على الأرض، أكثر شرعية من مرافعة تُلقى في قاعة محكمة بعيدة.
في مباراة الحسم، لم يكن الأهلي فريقاً عادياً. كان كمن دخل الملعب وهو يحمل رسالة إلى كل من شكّك أو انتظر تعثراً. أمام فاركو، تلاشى السؤال الذي طرحه البعض: “هل كان الخصم ضعيفاً، أم أن الأهلي كان قوياً؟” ـ لأن الحقيقة أنَّ إرادة الفوز وحدها كفيلة بتحويل أي مباراة إلى عرضٍ فني.
فها هو بن شرقي، القادم من الخصم الأزلي، ينسل من الجناح الأيسر كمن يكتب قصيدة مراوغة. وهناك وسام أبو علي، الذي سجل أربعة أهداف “سوبر هاتريك” في الدقائق 10 و33 و61 و68، لم يكن مجرد قناص؛ بل كان شاعر تمركز، يعرف أين يكون قبل أن تصل الكرة، فضلاً عن حسين الشحات الذي سجل الهدف الخامس في الدقيقة 76، وهناك إمام عاشور، بعنفوانه وانطلاقته، يبدو كمن يهرب من ماضي الإصابات إلى مستقبل البطولة الذي سجل الهدف السادس في الدقيقة الرابعة من الوقت بدل الضائع.
ثم كان هناك علي معلول، اللاعب الذي تحوّل إلى رمز. في وداعه، حمله زميله المغربي أشرف بن شرقي على كتفيه، في مشهد جمع بين الشجن والتكريم، وسط تصفيق جمهور يعرف أن هذا التونسي لم يكن مجرد ظهير أيسر، بل كان عنواناً لفكرة الأهلي الحديثة: الوفاء، الانضباط، والتأثير العابر للحدود.

متوجا بدرع الدوري
قيادة الفريق كانت في يد عماد النحاس، اسم يعرفه عشاق الكرة المصرية جيداً. لم يكن مجرد مدرب عبث بالحظ، بل رجل قرأ اللحظة، واستعاد فلسفة “اللعب الجميل” دون أن يتخلى عن الصلابة. شخصية النحاس، الهادئة أمام الكاميرات، تخفي خلفها عقلية تكتيكية لا تقل دهاءً عن أي مدرب عالمي.
وفي مبارياته الأخيرة، قدّم الأهلي معه نموذجاً لكرة قدم حديثة، لا تعتمد فقط على المهارة الفردية، بل على الضغط الجماعي، والانتقال السريع، والتنوع في صناعة اللعب. وقد بدا ذلك جلياً في استخدام اللاعبين في أدوار هجينة: كوكا، الذي يلعب ظهيراً، كان في لحظات رأس حربة متقدماً، يشارك في صناعة الأهداف وكأنما يتحدى كل القوالب.
التتويج، الذي جاء بعد انتظار وقلق وتكهنات، لم يكن مجرد لحظة. بل كان امتداداً لتقاليد شعبية قديمة: الفرح في الشارع، الزغاريد من الشرفات، المسيرات التي تنطلق دون ترتيب، الشعارات التي تُكتب على الجدران. في أحياء القاهرة والجيزة والمنصورة، وحتى في القرى الصغيرة التي لا تملك ملاعبًا ولا أندية، خرج الناس يهتفون للأهلي، وكأن الفريق يمثل أكثر من مجرد نادٍ رياضي: إنه تعبير عن الذات، ملجأ نفسي، وأفق لحلم جماعي.

ووسط هذا المشهد، جاء التتويج في الملعب، لا في فندق، كأنما تعيد كرة القدم الاعتراف بأصولها: أن تلعب لتفوز، وأن تفوز لتحتفل أمام الناس، في الهواء الطلق، وتحت السماء، لا خلف الأبواب المغلقة. “أصل كرتنا أن نلعبها في ملاعب، وليس في فنادق” ـ عبارة تختصر وجداناً شعبيًا يشعر بأن البطولة يجب أن تكون مرئية، محسوسة، وعامة.
لقد كان موسم الأهلي هذا أكثر من مجرد موسم. لقد كان لحظة صراع على هوية، وميدان اختبار للفلسفة، ودعوة لإعادة تأمل العلاقة بين الرياضة والمجتمع. فما بين المحكمة والملعب، بين الأداء والدرع، بين العرق والاحتفال، خطّ الأهلي سطراً جديداً في رواية لم تنتهِ بعد.
فمبروك للأهلي، نعم. لكن الأجدر أن نقول: مبروك لكرة القدم عندما تكون جميلة، ومبروك للمشجع الذي ظل يصدق، ومبروك للملعب حين يستعيد مكانته، ومبروك لكل من يرى في الرياضة أداة لتجاوز الهمّ اليومي، ونافذة على عالمٍ ممكن.
ولعل أصدق بطولة ليست ما يُعلق في النادي، بل ما يُكتب في قلوب الناس، ويُروى في جلسات المقاهي، ويُغنّى به الأطفال في الحارات.. تلك هي البطولة التي لا تنتهي.
30/5/2025